حدث ذلك بالصدفة. تعطلت سيارة الفريدو ترابس، الموظف المسؤول في قطاع النسيج، ولم يتمكن من الرجوع إلى بيته في تلك الليلة. أرشده أحدهم، ربما كان الميكانيكي نفسه، إلى فيلا غير بعيدة يستطيع فيها قضاء ليلته. هناك استُقبل بترحاب من مالكها العجوز الذي رفض أن يتقاضى أجرة الليلة، بل إنه دعا ضيفه إلى العشاء، مجانا أيضا مع ثلاثة أصدقاء له، كهول كلهم، وأرامل، ومتقاعدون يعيش كل منهم بمفرده. وقد وصفهم دورنمات، كاتب روايته الصغيرة، بما لا يحتاج إلى مخيلة نشيطة إذ هكذا، كما هم، يوصف المتقدمون بالسن عادة (السيد تسورن، مثلا، وهو أحدهم، بدا مزرّرا الصديري على نحو خاطئ، ويرتدي جوارب عدة فوق بعضها بعضا).
هؤلاء الثلاثة يُستضافون في البيت كل ليلة، ويحتسون ما لا عدّ لأنواعه وأسمائه من الكحول، ويحتفلون بتناول أطيب الطعام. محور سهرتهم يقوم على ما يسميه الكاتب «اللعب بمهنهم السابقة». جميعهم كانوا رجال قانون، أحدهم كان يعمل قاضيا وآخر مدعيا عاما والثالث محاميا.1 هم يجتمعون كل ليلة لعقد محاكمة بالترافق مع تناولهم تلك الكمية الهائلة من الطعام والشراب، كأنهم في قاعة محكمة، لكن كل ذلك لعب بلعب. في الليلة السابقة ناقشوا قضية نائب في البرلمان كان يلقي خطابا في مؤتمر انتخابي وتأخرعن موعدِ آخر قطار، فاستضافوه وأجروا له محاكمة أدين في نهايتها بالفساد والرشوة.
هذه الليلة سيحاكم السيد ترابس الذي وافق غير متردّد على لعب دور المتهم. هيئة المحكمة، المنتهية الصلاحية، بدأ المدعي العام فيها توجيه أسئلته إلى السيد ترابس، وهذا راح يجيب وسط الاحتفال بالمآكل وأنواع الشراب. «تقول إنك كنت موظفا عاديا في الشركة، ثم ارتقيت إلى أن تصير مديرا فيها، كيف حصل ذلك؟». وبعد أن أجاب المتهم، سأله المدعي العام، ماذا جرى للمدير السابق، حتى تمكنت من أن تحتل مكانه؟ ثم، هل كنت تعرف زوجته؟ ثم، هل قصدت بيتهم ذات مرة ولم يكن هو موجودا؟
وكانت السهرة، أي المحاكمة، تسير على خير ما يرام. انصبّ همّ الفريق اللاعب على أن تكون لعبته بلا شائبة، أي بأفضل مما لو كانت جارية تحت قوس المحكمة. لهذا كان أحدهم، بين الحين والحين، يصف الجريمة التي يُستدرج المتهم إلى الاعتراف بها بأنها «جريمة جميلة». في أحيان، إثر إجابة دالّة أو محملة باستخلاصات ما، كانت توصف بأنها جريمة رائعة. وهذا ما كان يدفعهم إلى رفع مستوى عراقة النبيذ والشمبانيا، التي بلغ تعتيقها أربعين سنة.
دورنمات الكاتب، في عودته إلى جعل شخصياته تعود إلى الشراب، مرة بعد مرة بعد مرة، بدا كما لو أنه يجنح إلى اختصاصه بكتابة المسرحيات، حيث يتخيّل القارئ هؤلاء العجائز جالسين على طاولة وسط خشبة مسرح. هذه النوفيلا هي بين أعمال روائية نادرة لدورنمات وهو، في أي حال، أعاد تقديمها مسرحيا بعد 23 سنة من صدورها رواية، في 1956. لكن الإستجواب – اللعبة راح ينزلق بالسيد ترابس إلى الظن بأن هناك شيئا كان يضمره ولم يكن عارفا به. لم يكن يعرف أنه قتل المدير السابق، وأن ظنه بأن شيئا جرى بينه وبين زوجة الرجل الشهية، تسبب بالنوبة القلبية التي قتلته. بعد أن أعلنت محكمة الكهول تلك، في نهايتها، أن المتهم مدان بجريمة القتل، رفع المضيف مستوى ما يقدمه إلى أرفع نوع من الشمبانيا، إذ كانت السهرة واحدة من بين الأفضل التي أحيوها، لكن السيد ترابس خرج منها قاتلا فعليا. انفرد أولا عن احتفالهم، ولاذ بغرفته، ليحقق العدالة بشنق نفسه.
كان على الكاتب أن يبذل قدرا كبيرا من الجهد كي يبقي روايته مشوّقة ولاهية، في قسمها الثاني، فيما هي تحكي عن العدالة بمعناها الفلسفي، من دون أن يقحم لغة المفاهيم بسرده. وهو، إضافة إلى دعوته التبصر في «الجرائم» التي نرتكبها جميعا، وإن من دون معرفة منا بما نفعل، دعانا، مع فريقه القانوني ذاك، إلى أخذ ذلك مأخذ المزاح والفكاهة. وهو، على أي حال، كان قد بدأ روايته باستهلال أرجع فيه كل شيء إلى الصدفة، بل إلى العطل (وهو عنوان الرواية، أو النوفيلا): «ليس الربّ هو مصدر التهديد الحالي، ولا العدالة، ولا القدر كما في سيمفونية بيتهوفن الخامسة، بل حوادث المرور وانفجار السدود من جراء أخطار في التصميم» أي، في ما خص الرواية، إن ما أدى بالسيد ترامب إلى شنق نفسه هو انقطاع الخرطوم الموصل للبنزين في سيارته التي ماطل الميكانيكي في إصلاحها.
*ثلاث قصص في مجموعة فردريش دورنمات أبرزها «العطل» التي حمل الكتاب عنوانها، نقلها إلى العربية سمير غريس وأصدرتها منشورات «الكتب خان» في القاهرة في 131 صفحة ـ 2020