الجمال أمر نسبي يختلف في تقديراته بين شخص وآخر، هذه المقولة على شيوعها لا تصمد أمام اختبارات مرآة الواقع، التي ندرك من خلالها كم نحن مسجونون تحت طائلة معايير الجمال النمطية المترسخة في أذهاننا. قد يتعلق الأمر بنظرة الطرف الآخر أو الجنس المقابل، فلما كانت النساء لا يولين الشكل الخارجي الأهمية القصوى بقدر ما يهتممن بعوامل أخرى، كالمقدرة المالية أو قوة الشخصية، أو غيرها. كان اهتمام الرجل وسعيه للتجميل معتدلاً، لكن في المقابل، فإن من الثابت أن الرجل تلفته بالدرجة الأولى المرأة الجميلة، حتى أنه يروى أنه حينما سئل أحد الحكماء عما إذا كان يفضل امرأة غنية أو ذات جمال أجاب قائلاً: لماذا لا نبحث في ذوات الجمال عن ذات المال؟
هذا الواقع سيؤدي لتحول مسألة التجميل عند بعض النساء والفتيات المقبلات على الزواج إلى هوس، في محاولة لملاحقة المعايير المعممة، التي وضعت من قبل شخص مجهول، حاول أن ينقل بها متطلبات الجمال بحسب نظرة الرجال. ستحاول الفتيات ملاحقة هذه المعايير وسيتنافسن في ذلك، وسينعكس هذا الأمر على الرجال الذين سيجدون أنفسهم أمام نماذج أنثوية متماثلة، يحاولن جميعهن الوصول إلى ذلك المثال الذي يفترض أن يكون الرجل معجباً به.
في السياق ذاته، ولما كان من الشائع أن الأنثى تكون أكثر جمالاً إذا ما كان لون بشرتها أقرب للون الأبيض، فإنه تنشأ محاولات كثيرة لتبييض البشرة، يكون بعضها شديد التكلفة من ناحية غلاء المواد، التي تستخدم بشكل يومي لضمان نجاح مفعولها. بحسب بعض الدراسات، فإن «بزنس» مواد التبييض يدر في أماكن كثيرة من العالم ما يقدر بمليارات الدولارات سنوياً. لكن الأمر لا يتعلق فقط بالرغبة في الجمال، حيث تكمن خلف مساعي الحصول على اللون الأبيض في بعض الحالات رغبة في الانتقال إلى مربع اجتماعي أعلى، وهو الأمر الذي يظهر في بلد كالهند، تظل فيه الطبقات الاجتماعية أمراً لا تخطئه العين، وترتبط البشرة الداكنة فيه بالمستويات الاجتماعية الدنيا، أو بالعمال المسحوقين. الأمر لا يقتصر على الهند، بل يمتد لمسافات أبعد على مستوى القارات الآسيوية والافريقية واللاتينية، وفي جميع الأماكن التي ترتبط مسألة اللون فيها بحساسيات عرقية أو خلفيات اجتماعية.
رغم مضي عقود طويلة على زمن التمييز والعبودية، إلا أن الحساسية التاريخية المرتبطة بدرجة اللون في أمريكا، لا يبدو أنها في طريقها للانحسار
بالإمكان أن نعثر على نقاش مماثل في مجتمعات أخرى أكثر تقدماً ظاهرياً، كالولايات المتحدة. رغم أنه مضت عقود طويلة على زمن التمييز والعبودية، إلا أن الحساسية التاريخية المرتبطة بدرجة اللون في ذلك البلد، لا يبدو أنها في طريقها إلى الانحسار. من المعروف أن عصر العبودية الأمريكي لم يكن يصنع تمييزاً فقط بين الأبيض والأسود، ولكنه كان يميز، وبشكل فريد من نوعه، بين الدرجات المختلفة للون الأسود. كانت الدرجة اللونية أمراً شديد الحسم، حينما يتعلق الأمر بمصير العبيد. من كانوا أصيلين وداكنين تماماً كان يتم توزيعهم وفقاً لذلك للعمل في الحقول والأعمال الشاقة، ومن هم «فاتحون» قليلاً، أو ملونون، كان يتم توزيعهم للعمل في الأعمال المنزلية أو غيرها من المهام «اللطيفة».
من أين جاء أولئك الملونون؟ كان أولئك في الغالب نتيجة لعلاقات بالإكراه قام بها البيض مع نساء سوداوات، هذه العلاقات، أو بالأحرى ذلك الاغتصاب، سينتج عنه أبناء بلون هجين سيكونون في أعلى هرم العبيد الاجتماعي. في الذهنية الأمريكية التي نتجت عن ذلك التقسيم المبني على لون البشرة، سوف يُصنف الزنوج أو الأفارقة الأمريكيون الذين يمتلكون لون بشرة «أفتح» بصفات الذكاء والمهارة والإنجاز، في حين سيكون الآخرون، ولمجرد لون بشرتهم فقط، موصومين بإكليشيهيات قاسية كالغباء أو الكسل أو الإجرام.
هذه الصور النمطية لم تنته حتى مع إقرار الحقوق المدنية المتساوية، فما يزال الإعلام والأفلام الأمريكية يكرسان لتلك الصورة المرتبطة بتوزيع الأدوار حسب لون البشرة، بل إن الأمر توسع ولم يعد قاصراً على المثال الأمريكي، فسينما «بوليوود» الهندية ظلت أيضاً تعمل على تنميط أدوار البطولة ومعايير الجمال، بمنح الفرص لمن هم «أكثر بريقاً»، وكذلك تفعل القنوات ووسائل الإعلام المرئية في أكثر من بلد.
توني موريسون، الكاتبة الأمريكية التي رحلت في العام الماضي بعد سنوات من الكتابة النضالية، كانت تقول إنها تشعر شعوراً سيئاً حينما يتم وصفها بالسوداء، رغم ذلك فما تزال تعرّف بأنها أول كاتبة من السود الأمريكيين تحصل على جائزة نوبل للأدب. كاتبة «محبوبة» و»العين الأكثر زرقة» لم تكن تكتفي في أعمالها الروائية ومقالاتها بنقد ماضي وحاضر عنصرية البيض ضد الزنوج والملونين، بل مضت لمعالجة موضوعات كان التطرق إليها ما يزال خجولاً، كعقدة اللون التي استطاعت من خلال أعمال أدبية كرواية «خلاص» أن تظهر كم تكون حياة أصحاب البشرة التي تختلف في درجة سوادها صعبة ضمن مجتمع الزنوج نفسه، والذي يظهر وكأنه يمارس عنصرية من نوع مختلف على بعض أفراده.
كرست موريسون روايتها «خلاص» للتطرق لهذا الموضوع، عبر سرد قصة برايد، الابنة السوداء، التي ولدت لأبوين ملونين لكن ببشرة أقرب للبياض. مأساة برايد كانت تكمن في رفض والديها لتقبلها، خاصة أمها التي كانت سحنة ابنتها تذكرها بأصلها الزنجي، والتي لم تكن تفهم لماذا ولدت هذه الطفلة بهذا اللون. عبر هذه القصة المعقدة ستناقش موريسون الأزمة النفسية المزدوجة: أن تكون أسود في مجتمع أبيض، وأن تولد أكثر سواداً في مجتمع زنجي.
السودان، البلد الهجين بطبعه ما بين الافريقانية والامتداد العربي، والذي تكون مزيجه الشعبي من خلال مسارات مختلفة من الهجرات التي شكلت السحنات السودانية المعاصرة، ربما يكون مثالاً جيداً لحجم التعقيد والعبء النفسي، المنطلق من اللون، فرغم أن أهل السودان هم أقرب للسواد في غالبهم، إلا أن الأمر هو فعلياً أكثر تعقيداً من ذلك. بدون التطرق للحساسيات التاريخية والمناطقية، يمكن تشبيه الأمر بوجود درجة معينة من «اللون النموذجي» التي تميز الإنسان السوداني في ذهن الكثيرين. أي تغير في هذه الدرجة يمكن أن تكون له تبعات في نظرة الآخر وتصنيفه، سواء كان ذلك لدرجة أكثر سواداً أو أكثر بياضاً.
للتوضيح، فإن المسألة لا تتعلق فقط بالسواد، ولكن اللون إذا كان «أفتح» من اللازم قد يعرض صاحبه للملاحقة العنصرية، فيوصف بأنه «حلبي»، ما يعني أنه خارج النسق النموذجي المعروف، وفي هذا الوصف على هذا النحو تشكيك على نحو ما بكونه «مواطناً أصيلاً»، الأمر الذي كثيراً ما يستخدم في مواجهة الخصوم، خاصة في المجال السياسي. هناك رغبة عامة في البحث عن لون أكثر بياضاً، والمفارقة أن هذه الرغبة وصلت للبلاد الافريقية، بل حتى لبلد تم استيحاء اسمه من لون بشرة أبنائه (السودان). يذكّر ذلك بما ناقشه الفرنسي فرانز فانون في كتابه: «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء». كان فانون يرى أن كثيراً من أبناء المستعمرات، حتى ممن تحرروا، باتوا ينظرون لأنفسهم بخجل ودونية، مقابل ثقافة المحتل. بحسب فانون، فإن أولئك ظلوا أسرى للصورة التي رسمها المستعمر لثقافتهم وهويتهم، التي اعتمدت على تكريس ثنائية التميز الأبيض والفشل الأسود.
كاتب سوداني
والأمر له أيضا نظريات قد تكون مختلفة بعض الشيء،خصوصا في دول المغرب الكبير. ..
فمن المعروف مثلا أن بلدا مثل المغرب الأقصى يتواجد به الكثير من المواطنين من أصول سوداء، قد تكون نسبتهم تقارب 35 في المائة من السكان. ..
أتى بهم العديد من سلاطين الدولة المغربية من بلاد السودان الغربية…