عقلاء المجانين

الجنون.. حالة نفسية طالما حللها كتاب علم النفس، فتطايرت التأويلات بين مجنون فاقد للعقل وعاقل يتظاهر بالجنون، لينحرف عمدا بمعاييره ونوامسيه عن جادة السبيل، التي تعتبرها الأكثرية النحو الذي يجب نحوه دون نقاش.
لكن ماذا عن دوستويفسكي الذي كتب يوما «إن مشروعي أن أصبح مجنونا» وماذا عن مجنون ليلى، سيد مجانين العشق؟
لو استبعدنا تعريفا للجنون بمعايير السلامة العقلية – التي ليست هي الأخرى محل إجماع بشكل دائم – لم يعد هناك حاجز دون تطبيق تعريف للجنون، بوصفه انحرافا عن معايير المنطق المألوفة – وهنا أيضا، في الإجماع على المعايير نظر، لكن الإجماع يصبح شبه كامل عندما نتفق على أن ما يبدو انحرافا عن المنطق للبعض، ليس سوى تطبيق لتصور للمنطق مختلف في نظر البعض الآخر. من هذا المنظور، يمكن مقاربة البراغماتية السياسية، كخرق للنواميس بصيغة قد تبلغ، في نظر شريحة من الرأي العام، أقسى درجات انعدام المنطق، وفقدان الرشد، بينما تصل الخطوة ذاتها في نظر شريحة للرأي العام مقابلة، إلى قمة الحنكة والكياسة، هذا هو مسلك بوريس جونسون الذي يرى في المناورة والإخلاف بالوعود، وعدم الرضوخ لأي انضباط جماعي، روافع للمصلحة العليا في بريطانيا.

البراغماتية السياسية تتضمن مرحلة لي ذراع، يعلم رابحها أن ثمة لحظات يجب الظهور فيها بمظهر الخاسر

في موضوع الصيد البحري الذي يخصنا حالياً، رأينا كيف بات الأمر معلقا بذلك المنطق المعاكس، الذي تقوّى به رئيس الوزراء البريطاني، عندما تعمد تهيئة جو يختلط فيه الحابل بالنابل، فربط منح التراخيص للصيادين الفرنسيين بمكافحة الهجرة غير الشرعية، وضمان الأمن الحدودي، مبررا توجهه بتطبيقه السليم لـ»سيادة مسترجعة» بعد البريكست. نجد هنا، على مستوى منخفض، بعضا من عناصر الشعبوية الأساسية، التي تسعى لتغليف كل شاردة وواردة بسمات الانطوائية، وكأنك أمام منظومة تتخذ ملامح البرنامج السياسي الجامع المانع، مطية لتغطية كاملة على جميع الملفات، وفقا لهذا المنطق، كلما حاولت معالجة جانب على حدة، اصطدمت بزاوية «أسمى» تمارس عليك ضغطا نفسيا يقفل في وجهك أي مساحة لاتخاذ المسافة اللازمة للتحليل.
«على مستوى منخفض».. لم يجنح جونسون إلى تجاوزات من شأنها أن تفرز سلوكيات تدخل أصحابها وضحاياها المحتملين في دوامات عنف، لا تحكمها سوى حرب أيديولوجية ساعية إلى إلغاء الآخر (عكس ما نشهده حاليا في فرنسا مع الأسف) ولن تجد في نهج جونسون السياسي محاولة اختراع مقولات تحاول اجتذاب الرأي العام، بالتلاعب بالحقائق العلمية المسلم بها، كما سمعت من ترامب مثلاً، لن تجد في نهج جونسون محتويات لما بات يسميه المراقبون بالـ»حقيقة البديلة» أي تلك الخطة التي تستهدف مقارعة أي تصور يثبت بالبرهان، أو على الأقل، بالحكمة، عن طريق التماس الإجماع من الجماهير، لمجرد الادعاء بالسلطة. لا.. جونسون أكثر حنكة من هؤلاء، ولذلك نتنازل له بإنجازات واضحة، مثل الخروج من المنظومة الأوروبية، ليس مستبعدا أن يقود بريطانيا في طريق ازدهار ورخاء، ينبعان من دبلوماسية اقتصادية متفردة. أما عن انتقال الحكومة البريطانية من عدم منح تراخيص الصيد، إلى منحها بالقطار، ثم العودة إلى المعقولية في عدد التراخيص الممنوحة، فليس راجعا إلى التهديد الفرنسي باللجوء إلى مقاضاة جارتها أمام البرلمان الأوروبي، بقدر ما ينم عن معرفة بأن البراغماتية السياسية تتضمن مرحلة لي ذراع، يعلم رابحها أن ثمة لحظات يجب الظهور فيها بمظهر الخاسر. السياسة حنكة وكياسة ولغز ومكيافيلية، وقد يجمعها البعض من باب الاختزال والتساهل في كلمة «جنون « لكنه جنون، كما قال ابن الجوزي في زمانه، عقلاء المجانين.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عربي من المالديف:

    معجب باطلاعك الواسع على التراث الشرقي والعربي منه خاصة.انت مستشرق جديد متمييز لبلادك.شكرا مسيو ريمون.

  2. يقول S.S.Abdullah:

    ما الفرق بين عنوان (اللاديني المتدين) لممثل الثقافة اليمانية/البريطانية (د محمد جميح) وبين عنوان (عقلاء المجانين) لممثل الثقافة الفرنسية/المغربية/الصينية (د بيير لوي ريمون) في نفس عدد جريدة القدس العربي، البريطانية، والأهم لماذا، وما دليلي على ذلك؟!

    فالسؤال، عندما عدة أساتذة جامعة، من (فرنسا) في عام 2021،

    يضيعون ميزانية الدولة العلمانية، على بحث، بخصوص هل هناك خالق، للكون، أم لا؟!

    هل هذا منطقي أو موضوعي أو مسألة لها علاقة بالعلم، أو بتوفير المصاريف (الإقتصاد) بشكل عام،

    أم هذا مثال عملي، عن فلسفة (الهدر)، من ناحية الإنتاج لأجل الإنتاج، بحجة الاختلاف كثقافة الأنا (الفرنسية)، بلا منطق أو موضوعية أو أي شيء علمي، أو إقتصادي منافس في سوق أجواء العولمة، على أرض الواقع، أليس كذلك، أم لا؟!??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية