بغداد ـ «القدس العربي»: تداعيات متسارعة للعقوبات الأمريكية الأخيرة على المصارف العراقية برزت من خلال ارتفاع أسعار صرف الدولار وصعود أسعار السلع والخدمات، وسط عجز الحكومة عن وضع حلول لمواجهة الأزمة الجديدة.
وجاءت التطورات بعد الإجراء الأمريكي بمعاقبة 14 مصرفا عراقيا ضمن سلسلة من العقوبات لتجاوزها العقوبات على إيران، حيث كانت تلك البنوك منذ سنوات، ملاذ إيران من العقوبات الأمريكية.
وشهدت أسواق بغداد والمحافظات ارتفاعا في أسعار صرف الدولار الأمريكي أمام الدينار العراقي، عندما لامست 1590 ألف دينار لكل 100 دولار، فيما السعر الرسمي هو 1320 دينارا، وسط إقبال مجنون من الناس لسحب مدخراتهم في المصارف من الدينار وتحويلها إلى الدولار للمحافظة على قيمتها.
ولبحث تداعيات أزمة ارتفاع سعر صرف الدولار وتبعات العقوبات الأمريكية، استضافت اللجنة المالية النيابية، محافظ البنك المركزي علي العلاق.
وكشف نائب رئيس اللجنة المالية في البرلمان العراقي، أحمد مظهر الجبوري، أن «حديث محافظ البنك المركزي خلال جلسة الاستضافة، لا يبشر بخير، والحلول التي طرحها البنك المركزي بشأن الأزمة شكلية» مؤكدا أن «العقوبات ستنعكس سلباً على السوق، وسعر صرف الدولار مقابل الدينار، سيستمر بالصعود خلال الأيام المقبلة».
وكان تأكيد اللجنة المالية البرلمانية أنها «لم تجد جدية حقيقية وواضحة لدى البنك المركزي ومحافظه للعمل على ضبط أسعار الصرف» مثار قلق وغضب العراقيين.
تحذيرات خبراء المال
اتفق الخبراء الاقتصاديون على أن الأزمة النقدية الحالية هي مؤشر أولي خطير على تدهور أكبر مقبل للاقتصاد العراقي.
الخبير الاقتصادي الدكتور نبيل جعفر المرسومي، أكد لـ«القدس العربي» أن الاقتصاد العراقي دخل المنطقة الحمراء عقب العقوبات الأمريكية على بعض المصارف العراقية، وان التبعات قد تؤدي إلى انهيار السوق العراقية.
وكشف المرسومي عن توقعاته باستمرار ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الدينار في السوق الموازي خلال الأيام المقبلة، مع عدم استبعاد ان تشمل العقوبات مصارف أخرى لتجاوزها العقوبات الأمريكية على إيران.
وشدد المرسومي على أن العقوبات الأخيرة على المصارف لم تأت من فراغ وانما جاءت بعد اتفاقية المقايضة الأخيرة بين الغاز الإيراني مقابل النفط الأسود العراقي، الذي وصفه بأنه انتهاك للعقوبات الأمريكية على إيران، حيث تسمح واشنطن بتمويل المشتريات الإيرانية من استيراد سلع إنسانية فقط، لذا جاء الرد الأمريكي بفرض عقوبات على البنوك العراقية، وبالتالي فالعقوبات ذات جوانب اقتصادية وسياسية. معربا عن اعتقاده بأن حل الأزمة يكون بالحوار مع الجانب الأمريكي الذي يفرض الوصاية على الاقتصاد العراقي.
وأوضح المرسومي انه «بعد العقوبات تضررت معنويات السوق العراقي، حيث زاد إقبال الناس على شراء الدولار ووصل الفرق بين السعر الرسمي والسوق الموازي إلى نسبة بين 14 و 20 في المئة، وهي عالية تفوق المعدلات العالمية، مع وجود مخاوف جدية من تزايد اتساع الفرق بعد ان وصل السعر إلى 1590 دينارا لكل دولار». وأشار الخبير إلى أن الأزمة النقدية قد تضرب الوضع الاقتصادي والعملية السياسية أيضا، وقد تؤدي إلى انهيار السوق، مؤكدا «أننا دخلنا الدائرة الحمراء».
وكشف المرسومي «أن العقوبات الأمريكية لم توقف تهريب الدولار من العراق إلى إيران وسوريا، فالعملة ما زالت تعبر الحدود ليل نهار عن طريق التهريب والبطاقات الائتمانية، لأن أغلب المصارف العراقية هي واجهة لقوى سياسية وإقليمية» منوها «ان في العراق أكبر عدد من المصارف في المنطقة (81 مصرفا) بينها 29 مصرفا إسلاميا.
وعن مدى فاعلية إجراءات البنك المركزي العراقي لمواجهة الأزمة النقدية، أكد انها محدودة التأثير «لأن الأمر خارج إرادة البنك المركزي العراقي، حيث لا يمتلك الأدوات التي تستطيع كبح جماح الدولار وكل الذي فعله لم يجد نفعا، والبنك لم يستطع ان يحافظ على الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق، وكان يفترض ضخ المزيد من الدولار إلى السوق» مبديا استغرابه من وجود احتياط ضخم من العملة لدى البنك المركزي يبلغ 130 مليار ومع ذلك فهو عاجز عن طرح عملة صعبة كافية، بسبب القيود الأمريكية.
وفي تصريح سابق أكد المرسومي ان الدولار لن ينخفض بل سيستمر بالارتفاع ما دامت العقوبات الأمريكية مستمرة على إيران، وان معظم مبيعات الدولار النقدي يتم تهريبها إلى إيران.
وبدورها قالت الخبيرة الاقتصادية د سلامة سميسم في حديث تلفزيوني، إن «العراق أكثر دولة فيها مصارف إسلامية وليس لديها مرجعية فنية» وإن «18 مصرفا تعرض لعقوبات الفدرالي الأمريكي حتى الآن» مشيرة إلى أن «العقوبات على المصارف الـ14 ستحد من قدرة الحكومة على تطبيق الموازنة». ولفتت سميسم إلى ان «السلة الغذائية منعت ارتفاع الأسعار بالسلع الأساسية الفترة السابقة» موضحة أن «المصارف العراقية تورطت بمخالفات لا يمكن السماح بها دوليا».
وفيما كشف المحلل السياسي العراقي حليم سلمان، إن «28 مصرفا عراقيا تعرض للعقوبات الأمريكية خلال السنوات الخمس الاخيرة» مبينا ان «البنك المركزي تخلى عن واجباته في الرقابة على عمل المصارف، كما انه غير قادر على حل مشكلة الدولار والسوق الموازي» فإن سبهان ملا جياد، المستشار السياسي لرئيس الوزراء أقر «أن الفساد له دور بارتفاع الدولار، وبالنسبة للعقوبات المفروضة على 14 مصرفا عراقيا، فلو كانت هذه المصارف مهنية 100في المئة لركنوا جانباً وأعادوا التفكير بالعقوبات وحاولوا التفاوض مع الفيدرالي الأمريكي، أما أن تتحرك هذه المصارف لشراء الدولار من السوق المحلية وترفع سعره، فأعتقد أن بعضاً منها وراءها أجندات ودوافع فساد».
إجراءات فاشلة للبنك المركزي
وخلال أزمة النقد الجديدة، ظهرت انتقادات واسعة للدور السلبي الذي يقوم به البنك المركزي العراقي ازاء هذه الأزمة وغياب الشفافية في إيضاحه الحقائق. فالبنك لم يعلن أبدا أن سبب الأزمة هو تلاعب البنوك العراقية والتفافها على العقوبات الأمريكية على إيران، وسط تقاعسه عن منع تلك البنوك من تهريب مليارات الدولارات من العراق إلى إيران وسوريا وغيرهما سنويا رغم التحذيرات الأمريكية المتكررة.
واستغرب المراقبون أن البنك المركزي انتظر حتى إعلان العقوبات في الصحف الأمريكية لكي يعلن أسماء المصارف المشمولة بالعقوبات. كما انه يبالغ في التخفيف من الأزمة بالقول إن حظر هذه المصارف لن يؤثر وهي تشكل فقط 8 في المئة، ولكنه ذكر لاحقا «ان سبب ارتفاع سعر الصرف هو العقوبات الأمريكية على هذه المصارف».
فيما تساءل آخرون عن كيفية منح البنك المركزي العراقي تراخيص العمل لهذه البنوك التي تعمل فقط للحصول على العملة وتهريبها إلى الخارج منذ سنوات، دون أي دور لها في الاستثمار، بل ان المركزي، أصدر عقب العقوبات إعماما للمصارف المجازة كافة والمؤسسات المالية غير المصرفية، بعدم التعامل بالدولار مع البنوك الأربعة عشر المعاقبة مع إمكانية التعامل معها بالعملات الأخرى، ما يعني أن هذه المصارف ما تزال عاملة ولم تقع عليها أي محاسبة بالرغم من تعريضها الاقتصاد العراقي لخطر الدخول في العقوبات.
وظهرت تحذيرات كثيرة من احتمال ومخاطر فرض عقوبات أمريكية على البنك المركزي العراقي، وهو ما يعني عزل العراق ماليا عن الوصول الآمن إلى السوق العالمية وما يسفر عن ذلك من آثار ستكون كارثية على مستوى التضخم في العراق مع انهيار شديد لقيمة سعر الدينار العراقي كما حصل لدول مجاورة كإيران وسوريا ولبنان.
ويتفق الخبراء والعراقيون على ان العقوبات الأمريكية رغم آثارها الثقيلة على الاقتصاد العراقي، إلا ان فيها جانب إيجابي في تقليل نزيف العملة الصعبة والحد من تسريبها إلى دول الجوار، حيث يقدر الخبراء خسائر العراق من العملة، خلال العقدين الماضيين بنحو 400 مليار دولار، تسببت بها الاستيرادات غير الحقيقية، وهو ما أقر به رئيس الحكومة محمد السوداني، قبل أشهر عندما قال إن «هناك فواتير بقيمة 300 مليون دولار يومياً في حين ان حاجة الاقتصاد العراقي تقتصر على ما يقارب 30 مليون دولار».
ولم يعد سرا ان البنوك الأهلية العراقية بعد 2003 معظمها تدار من قبل حلفاء وأصدقاء إيران، وهي غطاء لنشاط اقتصادي واسع يركز على تهريب أكبر كمية من الأموال العراقية إلى دول الجوار، بدعم من جهات سياسية عراقية متنفذة تقف وراء تسخير الاقتصاد العراقي لخدمة إيران مهما كانت النتائج السلبية على البلاد، وهي مستعدة لجعل الاقتصاد العراقي كبش فداء لانقاذ اقتصاد حلفائها، ولذا فإن العقوبات تعكس انزعاجا أمريكيا من دور حكومة بغداد المساند لإيران وسوريا وحلفائهما.