من المؤكد أن العقل سوف يستمر إلى الأبد، في تأجيج نار الخلاف حول طبيعته المعقدة والمركبة. فبقدر ما يبدو لنا أحيانا – وعلى ضوء مقولات فكرية وفلسفية – رصينا وموضوعيا، ومتوجا بقبس الحكمة والاتزان، بقدر ما يلوح خارج هذه المقولات، نهبا لحالات خبل وشطط، لا حصر لمأساوية تداعياتهما.
ولنا أن نتساءل في هذا الإطار عن مدى استعداد المفكرين العقلانيين، للاستمرار في تبني المواقف الإيجابية والمطلقة نفسها، تجاه سلطته التي كرسوا حياتهم من أجل إقناع العالم بها، خاصة أن الصيرورة الزمنية، هي المحك الذي تختبر فيه صلاحية المقولات والنظريات والمفاهيم، باعتبار أن خصوصية اللحظة التاريخية، هي التي تتدخل بشكل أو بآخر، في تأطير هذه المقولات، النظريات، أو المفاهيم. ما يعني استحالة القول بخلاصات فكرية ومعرفية ثابتة، تلزم الأزمنة المتعاقبة بالأخذ بها والانتصار لها. فتوافر شروط الظرفية التاريخية التي تتأكد فيها المردودية الإيجابية للعقل، تختلف جذريا عن تلك التي تتراجع فيها صلاحية هذه الشروط، حيث يكشف العقل، عن عدوانيته، وعن بؤس مردوديته في هذا المجال أو ذاك.
فعلى ضوء هذا المنظور المفارق، الذي تكتظ فيه نماذجه الصارخة، على طول المحطات التاريخية الحاسمة، يمكن القول، إن العقل يتميز بوجودين متكاملين. الأول، وجود في ذاته، بما هو آلة جهنمية قادرة على تصنيع الخوارق – بشقيها السلبي والإيجابي – في عامة الحقول المعرفية والبشرية. فيما يعتبر الثاني، وجودا يتحقق ضمن سياقاته التفاعلية التي يرد فيها، حيث تصبح الدينامية العقلية، مؤطرة، وموسومة تماما بالمقومات المجتمعية السائدة والمهيمنة. وما نعنيه بالمقومات الأخلاقية، هو مجموع المنظومات والتعاقدات المؤسسة لعلاقة الكائن بذاته ومحيطه، والمشوبة – طبعا – بكل ما يطالها من اختلالات، وانحرافات، حيث يحدث أن تكون موجهة بتناغم مرجعيات ذات منحى إيجابي، كما يحدث أن تكون موجهة بتنافر قوامه الهدم والتحريف. فالسياق الذي يطور فيه العقل قدراته العلمية بحثا عن المزيد من أسرار الكون، يختلف عن السياق الذي تبتكر فيه الدينامية العقلية، استراتيجياتها الأشد مكرا، بغية تفجير الكوارث والمآسي الأكثر شراسة ودموية. وبالتالي، فإن العقل هو موضوع استثمار متعدد الاختصاصات والاختيارات، بتناغم مع المرجعيات المشار إليها، التي توضع بموجبها خطاطات المشاريع العلمية والتنموية، فضلا عن المشاريع الاستيطانية والتهجيرية، التي تعاني من ويلاتها الشعوب المستضعفة، المحرومة من إواليات الممانعة والمقاومة.
والملاحظ أن هذه الخاصية ذات الطابع الاستثماري، تحفز الملاحظ على إعادة النظر في مجمل المواقف اليوتوبية، التي دأبت على تجريد العقل من سياقه البشري، بدعوى اعتباره طاقة خلاقة، قائمة الذات، وأيضا بدعوى انتماء منجزه إلى كل المكتسبات الإيجابية والبناءة. بينما تؤكد الوقائع الملموسة، أن الحركية العقلانية، ليست سوى امتداد طبيعي لخصوصيتها التكوينية والثقافية، التي تتدخل في إنتاجها مختلف المقومات الحياتية، المؤثرة عمليا في بناء شخصية الكائن.
وهو التصور الذي يدعونا للجزم، بأن الممارسة العقلية، هي التعبير المباشر عن هوية الذات، بصرف النظر عما تتصف به هذه الذات من سلبيات أو إيجابيات. حيث يستحيل القول بدينامية عقل يشتغل خارج المقومات الثقافية والسلوكية المؤطرة له. ولنا في الهيمنة الممارسة من قبل تحالفات القوى العالمية، على شعوب الهامش، بالمفهوم الاقتصادي والعسكري للكلمة، خير نموذج على ذلك. فالعقل لدى هذه القوى يكرس حضوره على مستويين، محكومين بأقصى درجات التضاد والاختلاف، فحيث يتميز المستوى الأول بكل شروط النبوغ العلمي والمعرفي والتنظيمي المؤثر عمليا في هندسة مسارات التوجهات الحضارية، نجد المستوى الثاني، وعلى النقيض من ذلك، يكشف عن وجهه البشع المتمثل في نزوعاته الاستعمارية والهمجية تجاه شعوب الهامش.
ولعل أغرب ما يمكن الإشارة إليه في هذا السياق، المحنة التي يعانيها غير قليل من المثقفين العرب، في بحثهم الدؤوب عن مكمن هذا العقل، الذي يحتفظون له في مخيالهم بصورة مثالية ونموذجية، ترى فيه المخلص المنتظر، والمعول عليه في إخراجهم من ظلمات التخلف، إلى أنوار التحديث.
وهي المفارقة التي تكشف عن خطورة البعد النرجسي، الذي يتصف به المواطن /المخلوق «النموذجي « الذي تتباهى الحضارة الغربية بإنجابه. وهي بالمناسبة، نرجسية مجردة من أدنى قيمها الإنسانية، التي يفترض فيها أن تكون شعلة يهتدي العقل بضوئها. وضمن هذا المعطى المأساوي، تصبح المقولات التنويرية التي يعتبرها العقل الغربي رهانه المصيري، مجرد تحصيل حاصل، ومحض إطار حقوقي وعلمي وحضاري، تحتمي به مؤسساته العليا، من أجل ضمان السير العادي لمصالح شعوبها، لا أقل ولا أكثر. وحجتنا في ذلك، كل هذه البقع السوداء، التي تغطي أكثر من موقع في خريطة المعمورة، كدليل قاطع على تفشي الداء العضال لانحرافات العقل، بعيدا عن أي أفق «عقلاني» يطمح الكائن إلى استشرافه.
إنها بقع موجات النزوح واللجوء المتتالية في عمق الهوامش، بعد أن أمست عرضة لمكائد العقول المزهوة بمراكزها الحضارية الكبرى. وهي الهوامش التي لا يتعامل معها العقل الغربي، بوصفها فضاءات بشرية وحضارية، بل فقط بوصفها الامتداد القسري لموارده الطبيعية، حيث لا حق لملاكها المحليين والحقيقيين في استغلالها، ما داموا في عرف العقل الغربي، جد قاصرين، بمدارك منحصرة في تفريخ كل أنواع الشرور، المهددة لأمن المراكز وطمأنينتها.
ولأنهم كذلك، وجب على القوى المهيمنة أن تضعهم تحت وصايتها الدائمة، وأن تمارس عليهم أنواع الحجر كافة، حيث يأخذ مفهوم الحوار المفترض إدارته بين شعوب العالم، شكل أوامر وإملاءات، لا تخلو من بعدها الزجري، التي تجبر فيها الهوامش على التنكر لخصوصيات هوياتها، أملا في أن تحظى برضا أصحاب الحل والعقد، المتحكمين في مصائر المخلوقات البشرية وغير البشرية كافة، بمختلف أنواعها وأجناسها. وهي الظاهرة التي تحظى باهتمام مثقفيهم الذي فقدوا ثقتهم بمقولة العقل، فلم يعد من وجهة نظرهم، محتفظا بصورة المنقذ والمخلص من ظلمات الجهل والأمية، بقدر ما تحول بفعل ما يمتلكه من سلطة ونفوذ، إلى عامل أساسي من عوامل تعميم الظلمات التعتيمية والتدليسية، التي يختلط فيها الحابل بالنابل، والحق بالباطل.
وهو المجال الذي يمارس فيه الفكر والإبداع الغربي فتوحاته واجتراحاته، متخلصا بذلك من جبروت مقولة اليقين العقلاني، التي تحولت أمامه إلى حجاب حديدي، يحول دون اكتشاف حقائق الأشياء. وإذا كان من الضروري إجراء توصيف تقريبي للعقل، الذي نحن بصدده، فإنه يطالعنا بتعدد وجوهه، أسوة بتعدد مساراته ومقصدياته، التي لا تحدها اختيارات ثابتة وجاهزة. بمعنى أن اشتغاله يتحقق على ضوء مساراته ومقصدياته المؤطرة بسياقاتها، وليس على ضوء مقومات ثابته، يعرف بها ويتميز بها، من قبل القاصي والداني. وفي حالة أخذنا بهذا التوصيف على مستوى الرؤية السياسية والاقتصادية، المتحكمة في قيادات العقل الغربي، فإننا سوف نصطدم بصخرة عقل، ذي نزوع إقصائي لكل القيم والحضارات التي تقع خارج محيطه، ضدا من «مشاريع الانفتاح» الثقافي التي لا تكف منابره الإعلامية عن التغني بجدواها.
ولعل أغرب ما يمكن الإشارة إليه في هذا السياق، المحنة التي يعانيها غير قليل من المثقفين العرب، في بحثهم الدؤوب عن مكمن هذا العقل، الذي يحتفظون له في مخيالهم بصورة مثالية ونموذجية، ترى فيه المخلص المنتظر، والمعول عليه في إخراجهم من ظلمات التخلف، إلى أنوار التحديث. كما لو أن الأمر يتعلق بالبحث عن طاقة مقننة وقائمة الذات، من شأنها تعبئة الشخصية العربية آليا، بما يجعلها مؤهلة وبشكل مباشر، للاندماج التام في طقس العقلانية الكونية، التي لا يأتيها الباطل من بين يديها، ولا من خلفها.
شاعر وكاتب من المغرب