في 2 شباط (فبراير) الحالي أبلغنا توماس ل. فردمان، على صفحات الرأي في «نيويورك تايمز» أنه لم يعد يفضّل متابعة أخبار الشرق الأوسط عبر محطة الـ CNN، وانقلب إلى المحطات التي تبثّ الأفلام عن عالم الحيوان. إيران دبور طفيلي يضع بيوضه في يرقات حية، تسارع يرقاته الوليدة إلى التهامها؛ كما يفعل «الحرس الثوري» الإيراني في لبنان واليمن وسوريا والعراق. «حماس» عنكبوت رابض على باب مصيدة، ماهر في تمويه شبكاته، وسريع في اصطياد فرائسه. بنيامين نتنياهو (ولكن ليس دولة الاحتلال، لاحظوا جيداً!) يشبه قرود السيفاكا، التي تستخدم القفز الجانبي في المشي، والتلويح بالذراعين أعلى وأسفل.
قبل يومين فقط من هذا التحوّل الحيواني، نسبة إلى عوالم فردمان المفضّلة حديثاً وليس إلى شخصه المترفع المهيب، أتتنا منه «بشرى» ثانية، لا تنظر إلى الشرق الأوسط من شاشات برامج الحيوان، بل من بدعة آخذة تدريجياً في التشكل، تُدعى «عقيدة بايدن»؛ نسبة، بالطبع، إلى الرئيس الأمريكي. ثلاثة أركان تقوم عليها تلك العقيدة: 1) موقف حازم وقوي تجاه إيران، بما في ذلك الردّ الانتقامي النشط على وكلائها ونوّابها في المنطقة؛ و2) مبادرة من الولايات المتحدة غير مسبوقة تروّج لدولة فلسطينية، تتضمن «شكلاً ما» من الاعتراف الأمريكي بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزّة، ترى النور شريطة نجاح الفلسطينيين بتطوير سلسلة من المؤسسات ذات المصداقية، والقدرة على «ضمان عدم تهديد تلك الدولة لأمن إسرائيل»؛ و3) إنشاء تحالف أمني أمريكي موسّع وعريض يشمل التطبيع السعودي مع دولة الاحتلال.
وفردمان يزعم (ومراقبون يصادقون على زعمه هذا) بأنه قريب من أفكار سيد البيت الأبيض ومشاريعه، أو هو على صلة وثيقة بكبار مساعديه، وكان قبل أيام قليلة قد حاور وزير خارجيته أنتوني بلينكن في منتدى دافوس. لهذا فثمة، استطراداً، احتمال أوّل أن تكون «العقيدة» تلك قد سُرّبت إليه، مختصَرة مبتسَرة تبسيطية، كي يتولى الترويج لها على نحو أكثر اختصاراً وابتساراً وتبسيطاً؛ واحتمال ثانٍ، مفاده أنها من بنات أفكاره، على شاكلة تفكير رغبوي أو تهيّؤ استيهامي، أو مزيج منهما معاً. ليس، في كلّ حال، من دون إدراج معيار حاسم لا ينتظم الاحتمالين معاً، فحسب، بل يحكم تسعة أعشار تقديرات فردمان في الماضي والحاضر والمستقبل: أنّ انحيازه إلى دولة الاحتلال مطلق وأعمى وعشوائي.
لا يصحّ، في ضوء ذلك المعيار، استبعاد جملة من الحوافز التي دفعت فردمان إلى ترويج، و/أو اختلاق، حكاية عقيدة بايدن المنتظَرة هذه، وفي رأسها بالطبع الانحياز الإسرائيلي إياه؛ كما لا يصحّ، إذْ لا يستقيم عقلياً، إغفال السياقات الزمنية الراهنة التي تحيط بتلك الحوافز، أو تسيّج حدودها وتقيم سقوفها أيضاً، لجهة استعصاء الفعل العسكري الإسرائيلي في القطاع بعد 3 أشهر من حرب إبادة شعواء وحشية ضارية، لم تنجز أياً من الأهداف التي أعلنها نتنياهو ساعة الصعود إلى أعلى شجرة التعهدات: لا دحر «حماس» ولا إعادة الرهائن الإسرائيليين، ولا تهجير سكان غزّة، ولا حتى… إغراق الأنفاق بمياه البحر أو الغازات الفتاكة.
إنّ انحياز فردمان إلى دولة الاحتلال ينطوي، في طياته الكثيرة المتنوعة، على رهبة خاصة تمتزج فيها مستويات الخوف والإشفاق والاصطفاف السياسي والانتماء الديني
صحيح أنّ انحياز فردمان إلى دولة الاحتلال ينطوي، في طياته الكثيرة المتنوعة، على رهبة خاصة تمتزج فيها مستويات الخوف والإشفاق والاصطفاف السياسي والانتماء الديني؛ الأمر الذي منعه من حَيْوَنة الكيان الصهيوني (كما فعل مع بلدان المنطقة، ومع بلده أمريكا ذاتها) واكتفى بإلقاء الصفة القِرْدية على نتنياهو وحده. ولكن من الصحيح، كذلك، أنّ حسّ الإشفاق على مآلات التدمير الذاتي التي ينزلق إليها «موطن اليهود» كان قد تملّك فردمان منذ تشكيل الائتلاف الأكثر يمينية وتطرفاً ونصرية وفاشية وأبارتيدية، ومنذ عزم نتنياهو وحلفاؤه أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترش على إحالة المحكمة العليا وخرافة «دولة القانون» إلى مزابل تاريخ الكيان.
اللهفة على الكيان الصهيوني، بوصفه «الواحة الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط، دفعته إلى التغنّي بخرافة أخرى ليست أقلّ إحالة إلى مزابل التاريخ الإسرائيلي عند نتنياهو وائتلافه: «الليبرالية الإسرائيلية» قشّة النجاة من غرق حثيث، والقربة التي يمكن النفخ فيها حتى إذا كانت ثقوبها لا تُعدّ ولا تُحصى. وهكذا لم يتورع فردمان عن مناشدة الرئيس الأمريكي بايدن كي يتدخل لإيقاف «تحوّل تاريخي» تشهده دولة الاحتلال: «من ديمقراطية تامّة إلى شيء أقلّ، ومن قوّة توازن في المنطقة إلى قوّة مزعزعة له»؛ حيث بايدن قد يكون «الوحيد القادر على منع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتحالفه المتطرف من تحويل إسرائيل إلى معقل غلوّ غير ليبرالي». وهذه عيّنة واحدة من مسوّدة «مذكّرة» افتراضية كان فردمان يعتزم رفعها إلى بايدن لو قُيّض له هذا، وكان سيقول أيضاً إنّ دولة الاحتلال التي عرفها الرئيس الأمريكي «تضمحلّ» وتنبثق بدلاً عنها أخرى «جديدة» حيث العديد من الوزراء في حكومتها «معادون للقِيَم الأمريكية، وجميعهم تقريباً معادون للحزب الديمقراطي».
وكما في معظم «جديد» الإدارات الأمريكية المتعاقبة بصدد الشرق الأوسط، ثمة قسط أعلى طاغِ من قديم مستعاد، ليس سوى رجيع مكرور جُرّب مراراً، ولقي الفشل الذريع تلو الاندحار المريع؛ لأنه، ببساطة، كان في كلّ مرّة يتكسر على الحوافّ ذاتها التي تشحذ مصالح دولة الاحتلال، وسياسات الاستعمار والاستيطان والبطش والعنصرية والاستهتار بالقانون الدولي وشرعة «المجتمع الدولي» دون سواه. والمرء، عند خلاصة كهذه، لا يكاد يأتي بجديد خارج تلك الدائرة المغلقة التي صنعتها، وتصنعها، جدلية رسوخ القديم، العتيق المتآكل المستهلَك، في كلّ تفكير أمريكي حول الشرق الأوسط يُزعم أنه «عقيدة» جديدة!
فما الفارق، حقاً، بين أركان «عقيدة بايدن» الثلاثية، وأركان سالفة كانت حجر الأساس في «النظام الدولي الجديد» الذي سبق أن اقترحه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، عشية عمليات «درع الصحراء» و«عاصفة الصحراء» ومؤتمر مدريد حول السلام العربي ـ الإسرائيلي؟ وفي صياغة أخرى للسؤال، وربما التساؤل على نحو أصحّ: هل طُوي ذلك النظام؟ وإذا صحّ أنه طوي، فهل لأنّ النظام استنفد أغراضه جمعاء، ام لأنه لم يستنفد منها قسط الحدّ الأدنى، فكان محتماً أن يتآكل ويهترأ ويتفكك ذاتياً؟
ليست هذه الأسئلة ميكانيكية إلا عند الذين يعتقدون أنّ السياسات الأمريكية الكبرى، بصدد الشرق الأوسط تحديداً، يمكن أن تشهد طفرات حاسمة تدشن منعطفات جوهرية، أو تبدّلات تكوينية، أو ما أشبها وكان منها مدانياً. وهؤلاء كانوا أوّل خائبي الرجاء من ذلك اللغط الأمريكي الذي تعالى عشية غزو أفغانستان والإعداد لغزو العراق، حين أشاع البيت الأبيض أنه بصدد الانتقال من سياسة عقد صفقات التسوية مع أنظمة الاستبداد بذريعة ترجيح مبدأ الاستقرار حتى على حساب الشعوب؛ إلى سياسة الانفتاح على الشعوب البائسة ذاتها وتزويدها بمختلف الصادرات الديمقراطية، شاءت الشعوب استهلاك تلك الصادرات أم أبت!
وحسب مثل إنكليزي حصيف، يُرجَّج أنّ فردمان تعايش مع حكمته مراراً، فإنّ أكذوبة واحدة تُروّج في مكان يمكن أن تنقلب إلى 100 حقيقة مصنّعة في مكان آخر؛ خاصة حين تكون أدوات الترويج صحيفة واسعة النفوذ والسطوة مثل «نيويورك تايمز» بصدد «عقيدة» تُنسب إلى رئيس دولة يحدث أنها القوّة الكونية الأعظم. الأمر الذي لا يلغي عندنا، نحن أبناء اللغة العربية، حكمة كعب بن زهير، عن رَجيع من القول مُعاد ومكرور!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس