عالمان متناقضان مختلفان، الأدب بشفافيته وثرائه بالمشاعر الانسانية، والسياسة بجفافها وفقرها للمشاعر الانسانية، فهل هما مختلفان حقاً؟ وإن لم يكونا مختلفين فما الذي يجمع بينهما؟ وهل الأدب يؤثر في السياسة أم أن السياسة تؤثر في الأدب؟ للوهلة الأولى قد تبدو هذه التساؤلات لا قيمة لها، لأن الأدب له عالم والسياسة لها عالم آخر، ولكن حين ندقق النظر ونمعن التفكير نجد أنهما يتبعان لعالم واحد وهو عالم الانسان، وحين تخطئ السياسة وتعتقد بأنها تتعامل مع المواطن الرقم أو الملف تفقد انسانيتها، وبالتالي تفقد ثقة المواطن بها. وحين يخطئ الأدب ويعتقد بأنه جزيرة نائية عن قارة السياسة، يتحول لمجرد تعابير وجمل تتحدث عن أي موضوع، ولكن هذا الموضوع لن يمس العصب الأساسي لحياة القارئ، فيتحول العمل الأدبي إلى مجرد لوحة فنية مكتوبة ولكنه ليس إيقاظا للضمير ولا نهضة بالفكر. الأدب يتمتع بامتياز التنوع، بينما السياسة تفتقد للتنوع إلا بحالة وجود سياسيين مبدعين مجددين وجريئين ليقدموا على إحداث التغيير. التنوع الأدبي يفرز أدبا ملتزما يتحدث عن قضايا انسانية عليا، أو أدبا عاطفيا غارقا في المشاعر وبرغبة كاملة من الكاتب، أو أدبا تاريخيا يؤرخ أدبياً لأحداث تاريخية، لا حصر لأنواع الأدب، لأنه جزء من عالم الإبداع بشموليته ولامحدوديته. ولكن ومع كل هذا التنوع للأدب لا يزال يؤثر في السياسة، الأدب يجعل القارئ العادي يكتشف نواحي جديدة في حياته ليس لأنه لا يعرفها، ولكن لأنه يتجاهلها فيأتي الأدب ليوقظ فكره ويلفت نظره لما هو منسي أو مدفون في واقعه أو ذاته. أي أن الأدب يملك خاصية تشكيل فكر وشعور القارئ برغبة وإرادة كاملة من القارئ، أما السياسة فإنها لا تمتلك خاصية التشكيل هذه، ولكن تمتلك خاصية التطبيق لما تريد وحتى رغماً عن إرادة القارئ أو المواطن، يضطر للخضوع بدافع البقاء ولكنه وبأعماقه يرفض ما هو قسري، ينفذ ما تريد السياسة منه ولكنه ليس حليفا لها، وحين تأتي الأزمات التي تعصف بالدولة يكون المواطن أول من يشهر عداءه، بل وسلاحه بوجه هذه الدولة التي تجاهلت خياراته. لذلك كان الأدب وبأحيان كثيرة يشكل خطرا على السياسة، لأنه يؤشر للقارئ الى مكامن الخطأ، يستفز مشاعره، ويشحذ أفكاره، يمده بالقوة الروحية لكي يقول لا، فأغلب الثورات والتغييرات الجذرية في العالم كانت نتيجة أفكار، مجرد أفكار ولكنها غيرت أمم اوبدلت حكاما؛ لهذا لا يجب تسخيف الأدب، ولا يجب أن تتم كتابته بسطحية، لأنه بنية أساسية في تشكيل فكر وسلوك الشعوب، ولابد لكاتب الأدب أن يكون على دراية واسعة بالسياسة، ليس لأجل أن يقوم بعمل الثورات، بل لأجل أن يكون واعياً بدروه، مدركاً أن مسؤولية كبيرة تقع على عاتقه، لأنه يكتب وهناك من يقرأ له، أما إذا كان يكتب ليضع أوراقه بدرجٍ ما فيمكنه أن يكتب ما يشاء. حين يفكر الكاتب بهذه الصورة تصبح كتاباته حتماً جدية ومسؤولة، لأنه يعلم وبعمق أنه عنصر مؤثر ولا يهم عدد من يؤثر فيهم، المهم أن يكون ما يكتبه يترك رنينا وصدى لدى من يقرأ له. من أشهر الجمل الأدبية لرجل سياسة هي جملة مكونه من كلمتين قالهما مارتن لوثر كينغ فغيرت تاريخ السود بأمريكا: ‘لدي حلم’. ومن الأمثلة على تأثير الأدب في السياسة كتابات فولتير ومونتيسكيو اللذين مررا أفكارهما المنتقدة لسياسة السلطة عبر المسرح والشعر، وكذلك بلزاك و زولا وهيجو. ويمكن للأدب أن يكون مزعجا، بل وخطيرا بالنسبة للسياسة لأنه الوسيلة الأولى والأكثر عفوية للتعبير عن ارادة الحرية والتغيير. فئة كبيرة من الكتاب المعروفين كانوا مشغولين بالتحدي الضاغط على السياسة ورواية ‘قصة مدينتين’ لتشارلز ديكنز عبرت عن هذا التحدي بين باريس ولندن خلال الثورة الفرنسية. يمكن للكاتب الجاد الملتزم البعيد عن المصالح الذاتية أن يكون بذرة لتغيير طال انتظاره، ولكن هذا لا يكون من دون ضمير حي متيقظ يهتم بمن حوله أكثر من اهتمامه بقضاياه الذاتية الضيقة، بل إن الأدب كان ولا يزال وسيلة هروب من التعسف والظلم. ومن ناحية أخرى، وإن كان الأدب له أثر في السياسة، فإن الأدب أيضاً كان ولا يزال له عميق الأثر على أصحاب السلطة من ملوك وامراء وحتى الجنرالات، منهم الإمبراطور اليوناني هادريان الملقب بالإمبراطور المثقف، ونابليون الذي جعل الأدب يخدم أهدافه السياسية؛ كما أن الأدب بالنسبة لأصحاب السلطة هو فرصة لتخليد أعمالهم وصفاتهم عبر أعمال ادبية تبقى خالدة حتى بعد رحيلهم، وهو ما يدركه كل رجل سلطة، ويكفي أن نطلع على العدد الضخم للمؤلفات الأدبية التي تناولت حياة رجال السلطة من كل الجنسيات وفي كل العصور، التي لا تزال تلاقي رواجاً كبيراً لندرك أهمية الأدب بالنسبة لأي سياسي. ولكن هناك علاقة أخرى وهي الأكثر أهمية بين الأدب والسياسة، وهي مدى تأثير الأدب على فكر وشخصية رجل السياسة. من المؤكد أن شخصية رجل سياسي يمتلك ثقافة أدبية عميقة تختلف تماماً عن شخصية سياسي لا اهتمام لديه أو دراية بالأدب. حين نعلم بأن الدراسات العلمية أثبتت أن قراءة الأدب رفيع المستوى يشحذ القدرات العقلية، ويمنح العقل أبعاداً فكرية واسعة وينشط خلايا الدماغ، ندرك أن الانسان المثقف يختلف عن الانسان غير المثقف، وتتسع دائرة الاختلاف هذه حين يتعلق الأمر برجل السياسة. لطالما ساد الاعتقاد في مجتمعنا العربي بأن رجل السياسة يجب ألا تكون له معرفة بالأدب، بل إن الأدب عالم لا علاقة له بالسياسة التي عالمها المصالح والأموال والمطامع بل والمؤامرات، ولكن الحقيقية هي أن إبتعاد الأدب عن المفاهيم السياسية أفرز عالما سياسيا جافا جشعا وغير انساني، الهدف لديه يبرر الوسيلة. ولا يمكن لأحد أن ينتقد رجل السياسة بأنه لا يمتلك المعرفة الأدبية الكافية بل ولا يهتم بالأدب، لأننا نعتقد بأن الأدب عالم منفرد بذاته بهذا الوجود، عالم يخص فئة ما من البشر، ونكاد لا ندرك أن الأدب هو انعكاس للانسانية على سطور وحروف الكاتب، وأن الكاتب لا يكتب ما يرى أو يسمع، فكل انسان يرى ويسمع، ولكن الكاتب يكتب عما يدور في مساحة الفكر والشعور بأبعاد تتجاوز حدود حواس الانسان العادي، لذلك وحين يكون رجل السياسة رجل أدب أيضاً، فإنه يكون من عظماء رجال السياسة وتدخل مقولاته التاريخ، ويكون مرجعا أدبيا وسياسيا بنفس الوقت لما لديه من اتساع انساني استوعب المفاهيم السياسية ومزجها بالمفاهيم الأدبية ليكون أكثر فهما، أكثر تعاطفاً، أكثر إبداعاً لكل ما يدور من حوله؛ يقول إليانور روزفلت: ‘ أحياناً أتساءل، إذا كنا سوف ننضج في سياساتنا بأن نقول اشياء محددة تعني شيئا حقيقيا، ام أننا سوف نستعمل دائماً عموميات يرضى بها الجميع التي وفي الحقيقة لا تعني سوى القليل’، هذه المقولة البسيطة تلخص صدق رجل سياسة مع ذاته وأنه انطلق من شعور انساني أدبي بعدم الرضى عن المراوغة وعدم الصدق في السياسة. ويقول ديفيد إيزنهاور: ‘ الشعب الذي يقدر امتيازاته فوق مبادئه ينتهي بأن يخسرهما معاً’. وهي مقولة يمكنها أن تكون أدبية أو سياسية وبعمق انساني وأخلاقي واضح. إن تقليص مساحة الأدب في السياسة خصوصاً في الزمن المعاصر، أنتج نوعا آخر من السياسة، سواء في الغرب أو في المجتمع العربي، انتج شخصيات لا تهمها سوى مصالحها الخاصة، وحتى لو اهتمت بمصلحة بلدها فهو اهتمام شديد الأنانية والمادية والنفعية تزول أمامه كل الاعتبارات الانسانية، وهو أخطر ما تقدمه السياسة في زمننا المعاصر، أصبح رجل السياسة شخصية تُثير الخوف والقلق لأنها مجردة من نظرتها الانسانية للأمور. الأدب ليس مجرد صور بلاغية أو روايات ممتعة، إنه أحد الأدوات المهمة بتطوير الحس الانساني، سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي، حتى أن السياسة تتقلص مساحتها أمام امتداد انسانية الأدب وتتحول لموضوع من مواضيعه، أما الأدب فلن يكون أبداً ضمن برنامج شخصية سياسية ترشح نفسها لمركز ما، ولكنه سيكون حتماً حاضراً بنظرة الناخبين له، لأنهم ينتخبون صفاته الانسانية لا مكتسباته المادية. وأخيراً، هل أفقدتنا التكنولوجيا متعة تذوق النص الأدبي، واكتشافنا لمشاعر أخرى بذواتنا وبعلاقتنا مع الآخرين، عبر نصوص أدبية تنساب مثل القطع الحريرية في الفكر والروح؟ الأدب هو اكتشاف لجمالٍ آخر للذات البشرية، إنه مواجهة الحقيقة بإشراقها ولو كانت مؤلمة؛ وبذات الوقت فإن جمال الأدب يجعل ألم الحقيقة رقيقاً جذاباً، بل ومرغوباً لما به من صقل للنفس ولأنه وسيلة للتواصل مع الروح الصامتة لكل منا. الأدب بالنسبة للسياسة يجب الا يكون خيارا، بل هو ضرورة، لأنه مرشد السياسة نحو الانسانية والرحمة والتعاطف، هذا إذا كان هدف السياسة الأول هو مساعدة الناس والارتقاء بهم، أما إن كان هدفها هو الانتفاع مما لديهم فهي ليست سياسة، بل انتهازية متجردة من الانسانية والحضارة. وأفضل دليل على ذلك هو اندثار ذكر كل من استعمل السياسة لمصالحه الخاصة، ليس فقط اندثاره، بل يصبح تاريخه شاهداً عليه لا مجداً له. قد تتلخص أهمية الأدب والثقافة بوجه عام في جميع مجالات الحياة بهذه المقولة للكاتبة والمؤرخة الأمريكية باربرا توشمان: ‘الكتب هي حاملة الحضارات، بدون الكتب يصبح التاريخ صامتاً، ويصبح العلم عاجزاً وتطور الانسانية مستحيلاً، الكتب هي أدوات التغيير، هي الرفاق، هي المعلمون، المبدعون وهي خزائن كنوز العقول، الكتب هي الانسانية جمعاء’.