علاقة السارد بالراوي

حجم الخط
4

استفدت من السرديات درسين اثنين: التمييز بين القصة والخطاب، وبين الراوي والسارد (المؤلف). كما استفدت من الرقميات درسين أساسيين: إن الوسيط الجديد لا يلغي الوسيط السابق عليه، لكنه يتجاوز حدوده وإكراهاته. من جهة، ومن جهة ثانية يستثمر منجزات الوسيط السابق، ويطورها وفق ما يتحقق لديه من تقنيات جديدة، وبذلك يغير تصوراتنا عن الوسيط القديم، ويجدد نظرتنا إليه، بتجديد معرفتنا به، وبغيره من الوسائط القديمة.
في ضوء هذه الفكرة الأخيرة أرى أن مفهوم «الراوي» أو المصطلحات التي توظف للدلالة على وجوده قديم قدم السرد كفعل إنساني. وبما أن تطور معرفتنا به لم تتم إلا مع السرديات، وهي تشتغل بالرواية، (الكتابة) فإن ترهيننا له بالبحث فيه من خلال السرد الشفاهي كفيل بجعلنا نتطور في فهمه، أيا كان الوسيط الذي يوظف من خلاله، حاليا (الشفاهة والكتابة) ومستقبلا (الرقامة). نستنتج من هذا أن الربط بين ما ينتج من خلال وسيط جديد، بما تحقق قبله، كفيل بجعلنا ندرك التحولات التي جاءت مع الوسيط الجديد.
الشفاهة سابقة على الكتابة في الثقافة العربية التي احتفت بالشاعر، خلال المرحلة الأولى، باعتباره الصوت الإبداعي المتميز. وظلت الذاكرة الفردية والجماعية تنقل لنا الأشعار والأخبار التي عرفتها الحياة العربية. ظهر مع الزمن صوت آخر هو الراوي المتكلف بنقل الشعر والخبر، وكان لكل شاعر راوية ينقل أخباره وأشعاره. وتقدم لنا المصادر العربية نوعين من الرواة: أولهما خاص، ويتجلى في الراوي الذي يلازم شاعرا بعينه، وهو الذي يذيع إبداعاته. والثاني عام يحفظ مختلف ما ينتج بغض النظر عن جنسه أو نوعه. ظهر النوع الأول قبل الإسلام حيث كان راوي شاعر معين مشروع شاعر في المستقبل. وتكون علاقته بالشاعر كعلاقة الصانع بالمتعلم، ومدرسة «عبيد الشعر» تؤكد لنا ذلك. أما النوع الثاني فسيظهر بعد الإسلام مع الرواة الذين سيصبحون، إما متخصصين في النصوص الدينية، أو أخبار الفتح الإسلامي، أو يجمعون إلى ذلك ما يتعلق بأيام العرب، وأخبارهم، ولغاتهم، وأحاديثهم (أخبار عبيد الجرهمي مثلا). يمثل الراوي الأول ذاكرة خاصة، والثاني ذاكرة عامة. ومع التدوين ستظهر مصنفات لا حصر لها اضطلع بها هؤلاء الرواة في نقل الكلام العربي من الشفاهة إلى الكتابة.

إن الهمذاني السارد ما كان ليبدع نوعا سرديا محددا، ويسميه (المقامة) لو لم يكن راويا لما كان متداولا في زمانه من أخبار الحياة اليومية التي عاشها، ومن السرود التي جمعت في المصنفات العامة والخاصة، والتي نقلت إلينا من خلال رواتها الذخيرة السردية العربية السابقة على ظهوره.

تطرح في علاقة الشاعر بالراوي قضية قلما نلتفت إليها، وتتعلق بأيهما أسبق وجوديا وزمنيا؟ نسلم جميعا بأن زهيرا (الشاعر) أسبق من الحطيئة وكعب الراويين. لكن زهيرا ما صار شاعرا إلا بعد أن كان راويا. وكل الآراء حول ثقافة الشاعر تستدعي أن يكون بكلمة «راويا» قبل أن يتحول إلى مبدع متميز. وامتلاك أي صنعة يقتضي البدء بتعلمها، وبعد ذلك الإبداع فيها. ما تقدمه لنا الكتب العربية عن «الأوائل» لا تمدنا بالجواب النهائي عن «السابق» لأن مرماها كان مقيدا بالرغبة في تحديد زمن معين للأشياء. وعلاقة الصنعة (المبدع) بالتعلم (المتعلم) تؤكد لنا البعد الجدلي الذي يؤكد أن لا وجود لأحدهما دون الآخر. إن الأسبقية للإبداع. لكن الإبداع «الأول» لا يتحول إلى صنعة، إلا بعد زمن طويل تتدخل فيه الرواية التي تعطيه بعده الجمعي، وقد تتكرس هذه الصنعة من متعلم استطاع التفوق على معلمه، وصار بذلك أنموذجا. هذا الأنموذج هو ما سيصبح ممثلا لقاعدة الصنعة التي ستستمر مع الزمن، إلى أن يظهر من يخرقها من راو جيد تمكن من التميز عن غيره. وتاريخ الآداب العربية والعالمية يقدم لنا نماذج من ذلك.
إن الهمذاني السارد ما كان ليبدع نوعا سرديا محددا، ويسميه (المقامة) لو لم يكن راويا لما كان متداولا في زمانه من أخبار الحياة اليومية التي عاشها، ومن السرود التي جمعت في المصنفات العامة والخاصة، والتي نقلت إلينا من خلال رواتها الذخيرة السردية العربية السابقة على ظهوره. لهذا الاعتبار أكاد أميل إلى الدفاع عن فكرة كون الراوي أسبق من السارد، وأن السارد غير ممكن الوجود دون الراوي، وأيا كان الوسيط الذي يوظفه السارد.
سيتبين للقارئ المتمعن أنني أؤكد الدفاع عن مقولة التمييز بين السارد والراوي. إن السارد شخص له وجود محدد، ونسب معين، مثله في ذلك مثل الشاعر العربي. ولذلك فهو يمثل صوتا فرديا ينتمي إلى جماعة مبدعة يشترك معها في النهل من المَعين الجماعي، ويتميز بما يمكن أن يضيفه إليه. أما الراوي، وإن كان شخصا واقعيا «يروي» قصص الأولين، كما في الساحة العمومية، فهو يمثل الصوت الثقافي الذي يختزن الذاكرة الجماعية. وبما أن السرد لا يمكن أن يكون إلا بوجود الراوي الذي ينقل لنا الكلام، وهو على مسافات متعددة منه، يوظفه السارد (القاص ـ الروائي مثلا) ليكون واسطة بينه وبين ما ينتجه من سرد، متخذا مختلف الصور المتعددة التي يتحقق من خلالها، وهو يغيرها بين إنتاج سردي وآخر. هذه الصور هي التي جعلت السرديات الكلاسيكية تعمل على نمذجتها وصورنتها. وكان هذا جزءا مهما من برنامجها. أما القول بـ»موت الراوي» فلا طائل وراءه.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جليل:

    تحياتي استاذ. جعلت السارد مساويا للكاتب(القاص/كاتب الرواية). والفنا في النقد السردي التفريق بينهما،باعتبار ان السارد وسيلة فنية أو عنصرا سرديا يبتكره ويوظفه الكاتب لنقل أحداث حكايته. فهل علينا إعادة النظر في كل ماسبق و خلق قطيعة مع مفهوم السارد كما حددته الشعرية الحديثة؟مع تحياتي

  2. يقول سعيد يقطين:

    استعملت الراوي لحمولته الثقافية. وأفضل السارد للدلالة على من ينتج السرد وهو الكاتب. نجيب محفوظ روائي وقاص. وحين نتحدث عنه خارج هذين النوعين السرديات أعتبره ساردا. وبذلك نستعمل مصطلحات منسجمة ومتكاملة. شكراً على التعليق.

  3. يقول مهتم:

    أستاذنا الفاضل،
    نثمن أعمالك الجادة، و ندرك أهميتها المعرفية…… و بعيداً عن كل إطراء، تتميز كتاباتك بالعمق، و الحرص الشديد على الدقة و التدقيق في المعروض، خاصة حينما يتعلق الأمر بصوغ المصطلح و تحديد المفهوم… و هذا أس من أسس الكتابة الضابطة و المُشرِّعة، المنتجة للاصطلاح والمَفْهمة، كما للتصورات و النظريات…. نقول هذا لكون العديد من النصوص الرائجة في/ عن السرديات كثيراً ما تخلط بين الراوي و السارد، و هي في ذلك لا تميز بين الرواية و السرد… و مرد الخلط، في نظرنا، (قصور) المعرفة بتاريخ المفهومين في التراث العربي و الوثوق (الأعمى) بالتعريف الغربي لمفهوم السرد… و لعل هذا ما دفعك لتقديم هذا التوضيح المقتضب لكنه مفيد طبعا..

    مع كل التقدير والاحترام.

  4. يقول سعدنا محمد:

    مقال رائع

إشترك في قائمتنا البريدية