العلاقة بين الأحداث والأماكن والشخصيات، علاقة حتمية لا يُمكن فصلها عن الإبداع في أي صورة من صورة الواقعية أو التجريبية، فلا يتسنى للمُبدع خلق التأثير المطلوب إلا بحضور عناصر التأثير الأساسية المُتمثلة في المكان والزمان والحدث، فالشخصيات التي تتصارع وتتفاعل لا بد لها من محيط تتحرك فيه، وزمن لقياس الوقت، وحدث تتكون بموجبه ملامح العلاقة بين الأبطال الرئيسيين والشخصيات الثانوية والهامشية.
في مُعظم الإبداعات الروائية والأفلام، كانت هناك إشارات تدل على أهمية المكان والزمان، ففي بعض روايات الكاتب نجيب محفوظ، كان للمكان اعتبار خاص جداً، وربما تحول في كثير من الأعمال الأدبية السينمائية إلى محور ارتكاز كما في «الكرنك» و«ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» و«السمان والخريف» و«قلب الليل» و«زقاق المدق» و«خان الخليلي» و«الحُب فوق هضبة الهرم» وغيرها.
وبالقياس على هذه النماذج يُمكن استنتاج المعنى من تداخل عنصري المكان والزمان في الإبداع الروائي السينمائي عند نجيب محفوظ، وهو معنى يُشير إلى استلهام روح المكان وطبيعته في البناء الدرامي، وتأثير ذلك على الكاتب ذاته، فما ينتج عنه من أشكال وأنماط يرجع بالأساس إلى إحساسه الشخصي به، ومن ثم ينعكس على شكل الكتابة وأطرها وتأثيراتها السيكولوجية والإنسانية.
الغريب أن ما أشار إليه أديب نوبل في هذا الخصوص وسجله ووثقه في رواياته وقصصه القصيرة، لم يفطن إليه الكثيرون إلا في حدود معينة واستثنائية فليس من دراسات مُتعمقة عن تأثير المكان والزمان في المسألة الإبداعية جرت العناية بها على النحو الذي أثبته محفوظ بالكيفية التي وردت في الروايات المذكورة والأفلام التي أخذت عنها. هناك فقط دراسة حديثة نسبياً كتبها الكاتب الراحل مكاوي سعيد قبل وفاته بفترة وجيزة عن روح المكان تحت عنوان « مُقتنيات وسط البلد «، اعتنى فيها بتسجيل الأماكن والشخصيات التي صادفها طوال رحلته الإبداعية داخل محيط وسط العاصمة، الذي يشمل شارع طلعت حرب وشارع البستان وشارع شريف وعبد الخالق ثروت وشامبليون وجواد حسني وقصر النيل وصبري أبو علم ومحمود بسيوني وكريم الدولة وهدى شعراوي وميدان التحرير وميدان محمد نجيب وميدان مصطفى كامل وشارع عرابي إلى آخره.
وقد اهتم مكاوي في كتابة مُقتنيات وسط البلد، برصد الأبعاد التاريخية للأماكن والمقاهي الشهيرة كمقهى ريش، باعتباره محطة رئيسية للقاء الكُتاب والمُبدعين، فضلاً عن أنه معلم مهم من معالم القاهرة، ولأهمية الكتاب النوعي تم تحويله إلى فيلم تسجيلي كتبه وأخرجه السيناريست والمخرج أحمد شوقي، وُعرض قبل سنوات في مهرجان روتردام في هولندا، وأحدث آنذاك دوياً هائلاً لاحتوائه على الكثير من التفاصيل التي تخص منطقة وسط القاهرة، بزخمها وثرائها المعماري والتاريخي والثقافي، وما تترجمه بصمات الزمن على البيوت والشوارع والحارات والأزقة من تباينات تُفصح عن أشياء ومعان كانت مُبهمة.
المشروع الثاني لعلاقة المكان بالإبداع هو ما بدأه منذ أكثر من خمس سنوات المخرج التلفزيوني عبد المنعم عثمان، الذي يسجل في برنامجه «حكايتي مع المكان» مشوار الشخصيات العامة المؤثرة، صاحبة الدور البارز في الحركة الثقافية، سواء في مجال الكتابة الروائية، أو القصصية أو الفن التشكيلي أو الإبداع الموسيقي أو السينمائي أو الإعلامي أو غير ذلك من أطياف الابتكار والفن على اختلاف نوعياته ومشاربه ودروبه، فالبرنامج لا يزال مُستمراً إلى الآن، وقد ضم في أرشيفه أكثر من مئتي شخصية إبداعية مهمة.
ويهدف المخرج عبد المنعم عثمان من خلال رؤيته التلفزيونية التسجيلية إلى إمداد الذاكرة الثقافية بنماذج إبداعية إضافية، تأخذ طابعاً وثائقياً وترمز إلى المناخ الثقافي السائد باختلافاته وانعطافاته ورؤى نجومه ومُبدعيه من أجيال مُتعددة، فالبرنامج الذي يُشير إلى تأثير المكان على الفنان والمُبدع يلامس أيضاً المشاعر الخاصة لدى كل شخص تجاه مُحيطه الجغرافي وبيئته الخاصة والأماكن المُفضلة لديه، والذكريات المُختزنة في وجدانه وعقله، فضلاً عن تأثير الأزمنة والتواريخ المُرتبطة بالأمكنة والأجواء ذاتها على روحه وتكوينه وحياته.
ويُمثل برنامج «حكايتي مع المكان» الذي ينتجه ويعرضه التلفزيون المصري آخر ملامح الإبداع البرامجي في ماسبيرو بعد تراجع نسبة الإنتاج في الدراما والمنوعات بشكل لافت، فالمبنى العريق الذي تخرجت فيه أجيال من المُخرجين وكُتاب السيناريو والمُذيعين ونجوم التمثيل منذ إنشائه عام 1960 باتت رسالته الإعلامية مُنحصرة في بعض الأطر المحدودة، وصار صوته مُنخفضاً واهناً لا يتعدى صداه المحيط الإقليمي، وهو الذي كان بالأمس القريب نافذة تُطل منها الجماهير المصرية والعربية من المحيط إلى الخليج على العالم أجمع، لتتابع أخباره وتعرف أسراره.
كاتب مصري