الخرطوم ـ «القدس العربي»: استدعاء الخارجية السودانية للمبعوث الأممي، فولكر بيرتس، على خلفية إعلام القوى السياسية بوقف الحوار السياسي، عقب انسحاب الجيش منه، أعاد إلى المشهد التساؤلات حول طبيعة العلاقة بين العسكر والبعثة، والتحولات التي مرت بها، فضلا عن محاولات العسكر الالتفاف على الدور الأممي، واستبداله بآخر أفريقي.
والخطاب الذي أرسلته البعثة إلى القوى السياسية، أكدت فيه عدم إمكانية استمرار الحوار «بشكله الحالي» عقب انسحاب الجيش منه.
وضمّ الخطاب توقيع طرفي الآلية الثلاثية الآخرين، مبعوثي الاتحاد الأفريقي، و«إيغاد»، لكن بعثة «يونيتامس» عادت واعتذرت عن عدم مشاورتها للأطراف الأخرى، قبل إرسال الخطاب.
ومع انقلاب الجيش السوداني في 25 أكتوبر/ تشرين الماضي، وجدت (يونيتامس) برئاسة فولكر بيرتس، نفسها في مواجهة تداعيات الانقلاب الذي أنهى الشراكة بين المدنيين والعسكريين، بدلاً من عملها على إكمال عملية الانتقال الديمقراطي.
ضغوط
وفي ظل التناقض الواضح بين المهام المنوطة بها لدعم التحول الديمقراطي في السودان وسيطرة الجيش على الحكم، ظلت البعثة تواجه ضغوطاً واسعة من السلطة العسكرية في السودان، طوال الأشهر الثمانية الماضية، وصلت إلى التهديد بطرد رئيسها من البلاد، بجانب عدم تجديد إقامة أحد مسؤوليها البارزين.
وأُنشئت البعثة بناء على طلب من الحكومة الانتقالية السودانية، وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2524، الذي تم التصويت عليه بالإجماع في 4 يونيو/ حزيران 2020.
وتشمل مهام البعثة الأممية، وفق القرار، المساعدة في تحول السودان إلى حكم ديمقراطي، ودعم حماية وتعزيز حقوق الإنسان والسلام المستدام.
وكذلك تضمن تكليف البعثة دفع عمليات بناء السلام وتنفيذ الاتفاقيات بالخصوص والمساعدة في الحماية المدنية وسيادة القانون، خاصة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، فضلاً عن دعم تعبئة المساعدة الاقتصادية والإنمائية وتنسيق عمليات المساعدة الإنسانية.
وفي 7 يونيو/ كانون الثاني 2021، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تعيين بيرتس ممثلاً خاصاً له ورئيسا للبعثة.
خبرة بيرتس
وبيرتس يملك خبرة تمتد لخمسة وعشرين عاما في المجال الأكاديمي ومجال الأبحاث والعلاقات الدولية والدبلوماسية، وعمل مع الأمم المتحدة، فضلاً عن خبرته في مجال حل النزاعات والشؤون الجيوسياسية والإقليمية. كما عمل كذلك رئيساً تنفيذياً ومديراً للمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية لنحو 15 عاما، ثم مساعدا للأمين العام للأمم المتحدة وكبير مستشاري المبعوث الخاص للأمين العام إلى سوريا، وأيضاً رئيساً لمجموعة الدعم الدولية لمجموعة العمل المعنية بوقف إطلاق النار هناك.
وبعد تنفيذ القائد العام للجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عادت البلاد إلى القبضة العسكرية والأمنية، لتجد البعث أن مهام إكمال التحول الديمقراطي باتت عسيرة بعد انهيار الفترة الانتقالية.
لكن رغم تلك التعقيدات، أعلن بيرتس، بعد نحو شهرين من الانقلاب، إطلاق عملية سياسية لاستعادة الانتقال الديمقراطي في السودان، قال إنها ستبدأ بمحادثات غير مباشرة بين جميع الأطراف السودانية، عدا حزب «المؤتمر الوطني»، معولاً على أن تفضي إلى محادثات مباشرة تجمع الأطراف السودانية، على طاولة حوار واحدة.
السلطات استاءت من إعلان «يونيتامس» عدم استمرار الحوار بعد انسحاب الجيش
وبعد إعلان العملية السياسية بأيام قليلة، والتي رحب بها العسكر في ذلك الوقت، تظاهر المئات من الموالين للعسكر ونظام الرئيس المخلوع عمر البشير، أمام مقر البعثة في الخرطوم، مطالبين بإنهاء عملها في البلاد، وطرد بيرتس، الذي وصفه المتظاهرون بـ«النازي» و«المحتل».
وقال المحتجون إنهم يرفضون وجود بعثة (يونيتامس) لأنها تتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، الأمر الذي يرون أنه يهدد السيادة الوطنية، وفق بيانات الجهات المنظمة وقتها.
تلك الاتهامات تصاعدت لاحقاً، لتصبح رسمية، بعد تقديم بيرتس إحاطة لمجلس الأمن الدولي في مارس / آذار الماضي، قال خلالها إن الانقلاب العسكري، تسبب في تداعيات اقتصادية وسياسية وأمنية في السودان، وإن البلاد ستواجه انهيارا واسعا، إذا لم تتم استعادة الانتقال الديمقراطي بقيادة المدنيين، مشيرا إلى تراجع أوضاع حقوق السودان في البلاد في ظل استمرار قمع القوات الأمنية العنيف للتظاهرات الرافضة للانقلاب العسكري وسقوط قتلى وجرحى واستمرار الاعتقالات.
ولفت إلى أن البعثة تلقت تقارير حول ازدياد التوترات بين مختلف قوات الأمن وداخلها، مشدداً على أن الوقت ليس في صالح السودان.
الأمر الذي أثار حفيظة البرهان، وجعله يلوح بطرد بيرتس، موجها له اتهامات بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد.
هجوم على بيرتس
وظل البرهان يؤكد منذ ذلك الوقت، على أن البعثة الأممية لا تملك الحق في طرح مبادرة للوساطة بين الأطراف السودانية، وأن مهامها تقتصر على تيسير العملية السياسية، وفق مبادرات سودانية.
كما شنت صحيفة القوات المسلحة الخاصة في الجيش السوداني، هجوماً على بيرتس، واتهمته بـ«عدم الحياد».
وقال رئيس تحرير الصحيفة، إبراهيم الحوري، في مقال في مطلع أبريل/ نيسان الماضي، إن «إنهاء عمل بعثة الأمم المتحدة في السودان أصبح مطلبا للكثيرين لأنها لم تلتزم بمبدأ الحياد، بل انحازت بشكل مفضوح لجهات بعينها».
واتهمها كذلك بـ«عدم الشفافية في جمع وعرض المعلومات وتحليلها واستخلاص النتائج منها في تقاريرها».
وقال إنها «قدمت معلومات مغلوطة في الإحاطة التي قدمها رئيسها أمام مجلس الأمن الدولي»، مؤكداً على «ضرورة ضبط عملها في إطار المهام الموكلة لها ورفض وصايتها على البلاد».
في المقابل، أوضحت «يونيتامس» أنها تعمل وفقاً لتكليفها المنصوص عليه في قرارات مجلس الأمن، وأن السودان جزء من الأمم المتحدة التي تمد يد العون للأعضاء فيها، مؤكدة أن ذلك لا يسمى تدخلاً. وشددت على أن «الأمم المتحدة ليست محايدة بخصوص الالتزام بحماية حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية».
وبعد يوم واحد من تهديدات البرهان بطرد بيرتس، في أبريل/نيسان الماضي، التقى به في القصر الرئاسي في العاصمة السودانية الخرطوم.
وقال إعلام المجلس السيادي، وقتها، إن الاجتماع ناقش الإحاطة التي قدمها بيرتس أمام مجلس الأمن الدولي، حول الأوضاع في السودان.
وفي حين قالت «يونيتامس» إن الاجتماع ناقش «سبل الخروج من الأزمة السياسية وتحقيق انتقال ديمقراطي وتهيئة بيئة مواتية للعملية السياسية»، ذكرت تقارير إعلامية محلية، إن السلطات العسكرية تمارس ضغوطاً واسعة لتولي الاتحاد الأفريقي العملية السياسية في السودان، باعتبار أن القضايا الأفريقية يجب أن تحل من داخل أفريقيا.
الوسيط الافريقي
وعاد إلى المشهد السوداني الوسيط الأفريقي، محمد ولد لبات، الذي كان من مهندسي اتفاق الوثيقة الدستورية، التي تشارك بموجبها العسكر والمدنيون السلطة منذ أغسطس/ آب 2019 وحتى الانقلاب العسكري في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وبعد اجتماعات عديدة عقدها المبعوث الأفريقي مع الأطراف السودانية، بالتزامن مع المحادثات غير المباشرة التي أطلقتها «يونيتامس»، كشفت تقارير محلية عن خلافات واسعة بين بيرتس ولبات حول شكل العملية السياسية المطلوبة في السودان.
وأوضحت التقارير أن لبات توجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والتقى مسؤولين في مجلس الأمن لمناقشة قيادة الاتحاد الأفريقي للعملية السياسية.
ولاحقا، ظهر بيرتس ولبات في مؤتمر صحافي، معلنين العمل المشترك ضمن آلية ثلاثية مشتركة، تشمل (يونيتامس) والاتحاد الأفريقي و«إيغاد».
وتزامناً مع انخراط، الآلية الثلاثية في اجتماعات مع الأطراف السودانية، توجه وكيل وزارة الخارجية السودانية، نادر يوسف، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سلم الأمم المتحدة مطالب من السلطات السودانية، بخصوص وضع مهام جديدة لـ«يونيتامس».
وقالت الخارجية، في بيان وقتها، إن يوسف زار نيويورك لمقابلة قيادة الأمم المتحدة وممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي «من أجل تسليم هذه الجهات مصفوفة تتضمن مطلوبات حكومة السودان من البعثة الأممية ـ يونيتامس».
ونقل البيان عن المسؤول السوداني قوله إن «جميع الجهات المختصة في السودان قد شاركت في وضع مصفوفة شاملة (جداول زمنية) تتضمن رؤية حكومة السودان للدور الذي يجب أن تضطلع به (يونيتامس) وفقا لولايتها».
وأوضح أن «أبرز محاور هذه الرؤية والأولويات تتمثل في إنفاذ اتفاق جوبا لسلام السودان (وقع في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، ودعم تنفيذ البروتوكولات وحشد الموارد».
وأضاف: «نطالب أن تتضمن المهام كذلك تقديم الدعم اللوجستي لبناء القدرات ودعم الآليات الوطنية لحقوق الإنسان والمساعدة في إنشاء ودعم مفوضية نزع السلاح وإعادة الدمج وآلية العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار والتنمية».
وقالت السلطات السودانية إن «يونيتامس انحرفت عن مسارها وكرست كل جهودها في العمل السياسي»، مطالبة إياها بالتركيز على مهامها الأخرى بدلا من الانشغال الكامل بالعملية السياسية.
وعلى الرغم من التحركات الواسعة التي قامت بها السلطات، جدد مجلس الأمن الدولي في يونيو/ حزيران الماضي تفويض بعثة «يونيتامس»، دون إحداث أي تغييرات في تكليفها، وفق ما طلبت السلطات السودانية التي ارتأت إبعادها من العملية السياسية.
والخميس الماضي، قالت الخارجية السودانية إنها طالبت بيرتس، بالالتزام بالحياد والوقوف على مسافة واحدة من الجميع.
وأضافت، في بيان، إن «وكيل وزارة الخارجية، السفير دفع الله الحاج، التقى الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة يونتاميس في السودان وذلك «للتباحث حول أمثل الطرق لتيسير مهمة البعثة وتنفيذ المهام الموكلة إليها لتيسير الانتقال الديمقراطي».
وأشار إلى خطاب قال إنه صدر من الممثل الخاص موجه إلى «قوى الحراك الوطني»، مشددا على «أهمية تحري الدقة في صياغة البيانات التي تصدر عن البعثة، تجنباً للتأويلات التي قد تضر بمجمل عملية الانتقال الديمقراطي».
ولفت إلى أن «خطاب الآلية الثلاثية المشتركة لأطراف المحادثات المباشرة، الأربعاء، أحدث تشويشا وبلبلة في الرأي العام».
وطالب الوكيل البعثة الأممية، بـ«الالتزام بالمهنية والحياد، وقيم ومبادئ وميثاق الأمم المتحدة»، مؤكدا على «أهمية الانخراط بفعالية في عملية تسهيل العملية السياسية في السودان وفقاً لخطة محددة بآجال زمنية معلومة».
وأضاف: «يجب على البعثة أن تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، اتساقاً مع المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة والتي تدعو إلى السلمية وتجنب العنف والتعدي على حريات الآخرين وحماية الممتلكات».
وفي وقت لم تعلق البعثة الأممية على اللقاء حتى الآن، قالت الخارجية السودانية أن بيرتس اعتذر عن ما وصفته بـ«الخطأ» الذي صاحب إرسال خطاب الآلية المشتركة للأطراف المشاركة في المحادثات المباشرة.
وكانت الآلية قد أطلقت الشهر الماضي محادثات مباشرة بين الأطراف السودانية، قاطعتها المعارضة، بينما شارك فيها العسكر والموالون لهم من المدنيين. وبعد تعثر المحادثات المباشرة أخطرت الآلية الأطراف المشاركة بتعليق المحادثات لأجل غير مسمى.
وعند إعلان البرهان خروج العسكر من المحادثات المباشرة، في خطاب متلفز الإثنين الماضي، قالت الأطراف الأخرى المشاركة في المحادثات المباشرة، إنها تلقت خطابا من الآلية الثلاثية، بإيقاف المحادثات لجهة انسحاب الجيش.
وفي وقت متأخر من ليلة الأربعاء، قالت الآلية، في بيان، إن مبعوثي الاتحاد الأفريقي و«الإيغاد» وضعوا توقيعاتهم عن طريق الخطأ في الخطاب الموجه لأطراف المحادثات.
وكانت الخلافات بين ممثلي الاتحاد الأفريقي و«إيغاد»، مقابل ممثل «يونيتامس»، قد برزت مرة أخرى قبل تلك الحادثة، حيث علقت «إيغاد» مشاركتها في اجتماعات الآلية، وغادر لبات البلاد، بعد حضور بيرتس اجتماعا نظمته الولايات المتحدة الأمريكية والسفارة السعودية بين العسكر والمجلس المركزي لـ«الحرية والتغيير»، وكان الثاني من نوعه، الشهر الماضي.
وقبل يوم واحد من تظاهرات 30 يونيو/ حزيران المناهضة للانقلاب، استدعت الخارجية السودانية، بيرتس لجهة تحذيره السلطات، في بيان، من «القمع العنيف للتظاهرات»، مطالبة إياه بـ«الحياد وعدم استباق الأحداث».
ولاحقا راح ضحية قمع الأجهزة الأمنية لتظاهرة 30 يونيو/ حزيران الماضي، التي شارك فيها عشرات الآلاف من السودانيين، 9 متظاهرين معظمهم بالرصاص، بالإضافة إلى مئات الجرحى، ليصل عدد الضحايا منذ بداية الانقلاب إلى 113 قتيل وأكثر من 6000 جريح، الأمر الذي قوبل بتنديد دولي واسع.