لم ينج هذا العالم المصغر من الانفجار الرقمي الذي طبع عقودا تفصله عن ماض طبعته بدوره ممارسات اجتماعية تغيرت في معناها ومجراها.
لنأخذ مثالا صغيرا مثل الطعام…
ماذا عن أوقات الطعام الآن؟ ماذا عن هذه اللحظات على المائدة التي كانت تمثل ركيزة التعاملات بين كل أفراد العائلة، صغارا وكبارا، آباء وأجدادا « أفراحه افراحهم، أتراحه أتراحهم » كما يقال. كان الطعام لحظة لتمتين الأواصر بامتياز.
ومن القراء من عرف « الأسرة الأكبر » حيث يعيش الأجداد والأبناء والأحفاد تحت سقف واحد.
وإذا عانى أحدهم، هب الباقي لتخفيف معاناته عملا بمبدأ « مشكلة أحدهم، مشكلة الجميع. »
هنا نسأل، في عالم كثيرا ما يعتبر فيه أننا دخلنا زمنا آخر، ألا يزال ممكنا ربط الماضي بالحاضر عندما نحس بأن الماضي غادرنا حيث كنا ننتظره، أكان الأمر متصلا باللقاءات الأسرية التقليدية أم بغيرها؟
هذا الماضي الذي ألفناه أرضا خصبة للحوار البيني، ترك المجال لمتحدث آخر : فالفضائيات هي التي صارت المتحدث، ورب جماعة إنسانية باتت تشاهد صامتة تسلسل الصور من المائدة فتقزمت إلى جماعة من المتلقين.
لكن، قبل أن يتحول التلفزيون إلى فضائيات، كانت له وظيفة بينة واضحة المعالم يبدو أنها انتقلت هي الأخرى إلى خبر كان: لقد سمع الكثير منا عن التلفزيون الوطني أو « تلفزيونات الدولة » وقد نشأت هذه مرتبطة بعوامل توحيد الأفكار والمشاعر بين الناس في زمن كانت دول لا تزال مطبوعة بأفكار التحرر الوطني وأخرى، مثل فرنسا، تواجه صعود تيارات اليسار المتشدد، فكان التلفزيون يلعب دور رص الصفوف عبر توحيد العادات والتقاليد وأنماط السلوك والقيم، وهناك من كان يرى أيضا في التلفزيون الوطني، عن حق، أداة للتثقيف ولتكوين الذوق الفني والحضاري.
فهل طوينا الصفحة؟ التلفزيون الوطني لا يزال قائما وعاملا، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو إلى أي حد تطرقت العقلية الاستهلاكية إلى منابع توحيد الصفوف ونقل القيم، شأن تلفزيوناتنا الوطنية ذات يوم؟ هنا يأتي مقال صدر في الملحق الثقافي لصحيفة الاتحاد الإماراتية عام 2016 بقلم إميل أمين، وقد جعلته مصدرا رئيسيا لتأملاتي في هذه السطور، ليتحدث عن تدني اهتمامات الأسرة « بالقضايا المصيرية الوطنية »إلى « سياقات التسطيح تارة، و الانبطاح تارة أخرى ».
لقد ميز سيبويه بين زمن مضى وزمن حاضر وزمن لم يأت بعد… فإلى أي حد يفتح الزمن الذي نعبره وبائيا صفحة جديدة لم نكتبها بعد؟ أيعيدنا إلى زمن مضى أم تراه يزج بنا قطعا
العبارة جميلة وبليغة : ثمة فعلا مساران يتلاقيان، أو بالأحرى مساران يشكل أحدهما رافدا للآخر، إذ غالبا ما ينم « الانبطاح » عن « التسطيح » فيرفد الأخير السابق.
و المصطلحان صفتان أساسيتان لمجتمع الاستهلاك.
يحن المقال إلى زمن مضى…زمن الاتصال الهاتفي الذي سبق الإنترنت…وأسعد حين أقرأ : « لم تكن أسلاك الهواتف ولا شك تحمل دفء العلاقات الشخصية، غير أن الصوت قطعا كان يترك بعضا من الآثار النفسية الإيجابية بدرحة أو بأخرى. »
وفي ما يلي من سطور، أجد شيئا من نفسي: « قبل ظهور الإنترنت كان المراهقون يقضون أمسياتهم على خط الهاتف، وكانوا يعتبرون البيت مكانا للراحة واستجماع القوى، يلجؤون إليه في وقت متأخر من الليل بعد أن ينهكهم « التخالط الاجتماعي » خارج المنزل، وكان الأهل يقلقون عليهم فإذا بهم الآن يتمنون رجوع تلك الأيام. »
أحن إلى أمسياتي المغربية التي اكتشفت عبرها وغيرها من مناسبات عالم مضى، اللغة العربية، أحن إلى « تخالطتي الاجتماعية « مع « أولاد الدرب » الذين كانوا يعلمونني « الدارجة » أحن إلى « لجوئي إلى البيت في وقت متاخر من الليل، بعد أن سهرنا في مدينة تظل مرافقها التجارية والمقهوية والمطعمية عاملة حتى الوقت المتأخر ذاته…
أحن إلى الهاتف لأن لحظة المكالمة كانت تسبقها لحظات ترقب و انتظار، فيما الاستهلاك نقيض الانتظار.
أحن الى الهاتف كما أحن إلى الرسائل الورقية التي كانت تحفزنا لهفة وشوقا، أحن إلى الأسطوانات ودورانها على الجهاز، أحن إلى الأشرطة التي كانت تلعبها تباعا آلات الإذاعة الوطنية الثلاث من أستوديو الإرسال المباشر رقم 4…
أحن إلى زمن مضى كما يحن الشاعر إلى خبز أمه…
لقد ميز سيبويه بين زمن مضى وزمن حاضر وزمن لم يأت بعد…
هنا، أتساءل…إ لى أي حد يفتح الزمن الذي نعبره وبائيا صفحة جديدة لم نكتبها بعد؟
أيعيدنا إلى زمن مضى أم تراه يزج بنا قطعا، كما نقول في فرنسا، في عالم « الما بعد »؟
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
الأخ بيير لوي ريمون.. ثَمَّةَ في تاريخ الفكر الإنساني على الأقل ثلاثة أنواع من (فكرة) الزمن، كوجود قابل للإدراك: ثَمَّةَ الزمن الفيزيائي والزمن الأحيائي والزمن النفساني.. في مقالتك «الزمنية» الطَّموحة هذه،هناك خلط جلي بيِّن ٌبين هذه الأنواع الثلاثة دون تحديد (ودون حتى إبداء شيء من علم بتعريف) أي منها في مظنَّته أو في مظانِّه.. ثم إن كلام سيبويه عما يمكن أن يُسمَّى، في هذه القرينة، بـ«الزمن اللغوي» (وذلك بمثابة نوع رابع، إن جاز التصنيف) ليس له علاقة بأي من تيك المظانِّ في حقيقة الأمر، لا من قريب ولا من بعيد.. إذا كانت حقيقة الأمر كذلك بالفعل، فقد ميز المصريون القدماء أنفسهم فكرات الماضي والحاضر والمستقبل (وحتى الماوراء) منذ أن بدأوا باختراع الساعة الشمسية قبل حوالي أربعة آلاف سنة – وهذا سبب وجيه واحد، وواحد فقط، من الأسباب التي جعلت معبود فرنسا الأول، نابليون بونابرت، يزحف على بطنه وعلى بُطُون من استأجرهم من «العلماء» الفرنسيين، أولئك الحماسيين والغيورين «الوطنيين» على اختلاف مشاربهم ومآربهم، لاحتلال مصر (الحديثة)، بدءا من اليوم الأول من شهر تموز (يوليو) من سنة ١٧٩٨.. !!
طبعا، لا بد من الاعتراف هنا بأن الباعث الرئيسي على إبداء ملاحظاتي النقدية (والتصويبية) هذه كان عين العبارة الختامية التي تم اختيارها في محل العبارة التصديرية ذاتها:
/لقد ميز سيبويه بين زمن مضى وزمن حاضر وزمن لم يأت بعد هنا، أتساءل.. إ لى أي حد يفتح الزمن الذي نعبره وبائيا صفحة جديدة لم نكتبها بعد؟ أيعيدنا إلى زمن مضى أم تراه يزج بنا قطعا، كما نقول في فرنسا، في عالم «الما بعد »؟/.. !!
الأخت الدكتورة آصال أبسال المحترمة : رائع بكل معنى الكلمة كل حرف تنطقينه في مداخلاتك الثرة / كل الود والتحية
السيد بيير لوي ريمون ، أراك في نصوصك الأخيرة في هذا المنبر منشدًّا كثيرا إلى، ومندهشًا أكثر بالزمن “الذهبي” في الإمارات، على وجه التحديد – هل لك أن تتكرم علينا ببعض من أسباب هذا الانشداد وهذا الاندهاش !!!!؟
سؤال وجيه بالفعل ، ونحن كذلك لاحظنا بكل وضوح وجلاء هذا الانشداد وهذا الاندهاش من طرف بيير لوي ريمون في نصوصه الأخيرة !!؟
من المعروف فسيولوجيا ان الذاكرة تختار الاحتفاظ بالذكريات الطيبة وتتخلص من السلبية منها.وفي ذلك حماية من التوترالعصبي المزمن ومضاعفاته.
نعم انا مشتاق لايام السمر الخالية عندما كنا جميعا نجلس حول المائدة. واحن كثيرا الى جدتي، و “احن الى الكاس التي شربت بها”.
تصويب اصطلاحي ومفهومي
الاحتفاظ بالذكريات الطيبة ليس نتاجا فسيولوجيا بقدر ما هو نتاج نرجسي وإلى حد الانتقائي الأناني فالذاكرة مصممة على تذكر أشياء معينة سواء كانت طيبة أم حتى خبيثة وخاصة الناجمة عن الجهلة من اللئام والغدارين والحسودين وما أشبه