قال أحدُ الحكماء: الذي يريدُ عملاً ليس مِن شأنهِ كالذي يزرعُ النخلَ في غوطةِ دمشق، ويزرعُ الأترُجَّ في الحجاز.
قضية تجاوُزِ التخصصات هي من الآفات المنتشرة في العالم الإسلامي العربي، بل تخطت حيّز الأفراد إلى بعض الكيانات الإسلامية التي تعنى بالعلم الشرعي، وتجعل العلم به وتعليمه الأصل في رؤيتها الإصلاحية، حيث يرون أن علماء الشريعة هم المؤهلون لقيادة الأمة.
فلئن كانت هناك نظرة مُجحفة لمكانة أهل العلم، الذين هم ورثة الأنبياء، فإن هناك نظرة متطرفة أخرى تجاههم، تعتبر أن العلم الشرعي يكفل للعالم أن يقود الأمة، ويستدعون مواقف لعلماء من الأمة قادوها إلى تغيير بعض الأوضاع المجتمعية، كالمطالبة بالحقوق من الولاة، أو ما يتعلق بأمن البلاد كتجييش الشعوب ضد الغزاة. هذه النظرة الأخيرة يشوبها الشيء الكثير من الجهل بوظيفة أهل العلم وأحوالهم وواقعهم، فمن الخطأ الدمج المتعسف بين العلم والقيادة، لأن القيادة لها مقومات عديدة منها العلم بنسبة معينة لا تصل بصاحبها إلى حد العالم اشتراطا.
أبو عبد الله بن الأزرق، أحد الفقهاء والقضاة الذين اتبعوا نهج ابن خلدون في منهجه الاستقرائي الأصولي في تفسير التاريخ، ألّف مصنفًا في الاجتماع السياسي بعنوان «بدائع السلك في طبائع الملك»، يُبرز فيه أخلاق الراعي والرعية، أفرد فيه فصلًا لاكتساب العلوم، وتعرّض في بعض مسائله كيف أن العلماء بعيدون عن السياسة، لسببين، الأول: أنهم يعتادون النظر الفكري والغوص في المعاني الدقيقة، وانتزاعها من المحسوسات، وتجريدها في الذهن أمورًا كلية يُحكم عليها بأمر على العموم لا بخصوص مادة، أو شخص أو جنس أو صنف من الناس، ثم يطبقون تلك الكليات على الخارجيات. والثاني: أنهم يقيسون الأمور على أشباهها بما اعتادوا من القياس الفقهي، فهم منفردون في سائر أنظارهم في الأمور الذهنية… وأما السياسة فهي تحتاج إلى مراعاة ما في الخارج. وليس مقصود ابن الأزرق الحطّ من قيمة العلماء، لكن المراد أنهم لكثرة استغراقهم في العلم النظري لا يلتفتون غالبا إلى الواقع المحيط بهم، بينما القائد لا بد له من الاحتكاك المباشر بالواقع والتعاطي معه، والتدقيق في مساره ومنعطفاته والتركيز على الجانب العملي لا النظري وحده.
عندما نقلب صفحات التاريخ، فنادرا ما نرى القيادة السياسية تتمثل في العلماء كما هو الحال في الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز. وفي العهد النبوي لم يكن التصدير للقيادة يؤهِّلُ له العلم وحده، ولم يكن من أولويات النبي صلى الله عليه وسلم أن يُنشئ مجتمعا من العلماء، لكنه كان يشجع على العلم ويكتشف النوابغ فيه، كابن عباس وابن مسعود وغيرهما، بل ذكر الإمام ابن حزم أنه لم تُروَ الفتيا في العبادات والأحكام إلا عن مئة ونيف وثلاثين من الرجال والنساء، من جملة ما يزيد عن ثلاثين ألفا من الصحابة، فالقضية تخصصات ونبوغ في مجالات معينة. وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُنصّب قائدا لجيش تبوك، اختار له أسامة بن زيد، وكان شابا فارسا ليس من أهل العلم، وكان في الجيش أبو بكر وعمر، الحال نفسه مع خالد بن الوليد، كان يُقدم للقيادة مع وجود من هو أكثر منه علما، أما القيادة السياسية العامة فقد تولى عثمان بن عفان الخلافة، وهناك من هو أعلم منه من الصحابة.
مهمة العلماء ليست تولي القيادة السياسية، بل توعية الجماهير وتعبئتها لخدمة الصالح العام للمجتم
إن مهمة العلماء ليست تولي القيادة السياسية، وإنما ضبط مسار هذه القيادة وفق ضوابط الشريعة، وتوعية الجماهير وتعبئتها لخدمة الصالح العام للمجتمع. وكلما نظرت إلى القيادات السياسية المعتبرة في تاريخ الإسلام، ستجد هذه المواءمة بين القائد والعالم، فترى مثلا سيف الدين قطر، كان إلى جواره العز بن عبد السلام، وصلاح الدين الأيوبي كان إلى جانبه القاضي الفاضل، الذي قال عنه صلاح الدين: «لا تظنوا أنني فتحت البلاد بالعساكر، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل»، كما تجد السلطان العثماني محمد الفاتح كان يلازمه الشيخ آق شمس الدين، والشيخ محمد بن عبد الوهاب كان أحد أطراف تلك الثنائية مع محمد بن سعود. إذن فمِن الخطأ البيّن أن يظن بعض المصلحين والكيانات العاملة للإسلام، أن مجرد اهتمامها بالعلم وتخريج العلماء، يُمكّنها من قيادة الأمة، وليس في ذلك أي تنقيص لشأن العلم وأهله، لكنه كما قيل: قيمة المرء ما يحسنه. ومن الخطأ تجاوز التخصصات ويتصدر أحد لشأنٍ لا يُحسنه، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه الصحابي أبو ذر الغفاري أن يستعمله، فقال له: (يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) فلم يُصدّره للقيادة مع فضله وسبقه، لأنه لا يصلح لها. وكما قال الشاعر:
وللمعاركِ أبطالٌ لها خُلِقوا….. وللدواوينِ حُسَّابٌ وكُتَّابُ
ربما كان هذا الطرح سيراه معظم القراء بعيدًا عن واقعهم، لكنه مُوجّهٌ إلى شريحة بعينها، يندرج التوجه إليها بالخطاب تحت غاية عامة وهي، إصلاح منظومة التصورات والأفكار، حيث أن هؤلاء العاملين في الحقل الإصلاحي، يرتكزون في توجهاتهم على تعليم العلم الشرعي، ويتصورون أن العلماء هم من لهم الصلاحية لقيادة الأمة السياسية، أو قيادتها في أي مشروع نهضوي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
و أقسم بالله إن هذه المقالة من أروع ما قرأت. كنت أعيد كل فقرة فيها مرتين او ثلاث حتى استوعبها واتلذذ بها. كلمات جميلة وتعبير راقي يمتع العقل ويهذب الفكر. يبدو لي وضعت كل ثقلك الأدبي في هذه المقالة بل اقول القطعة الموسيقية الجميلة. حقيقة ابداع في توصيف المهام بدقة وتوازن، لا ينكرها عاقل و لا حكيم.
والله لا اعرف كيف اشكرك على كل هذه الكلمات الجميلة التي تفرح القلب وتشرح الصدر وتنير العقل.
أجزم لو أقيمت لك مناظرة في الخطابة مع طاقم أكاديمي لأحد الجامعات العريقة لغلبتهم جميعا.
لله درك من كاتبة مبدعة واسمحي لي أن أحفظها عن ظهر قلب لاهذب فكري.
ياأخت إحسان : علماء ( الشريعة ) لا يصلحون إلا للخطابة وإمامة الصلاة في المساجد والوعظ.اما علم الشريعة فمكانه الصحيح في الجامعات.نحن نفهم خطأ شؤون الدّين.ونتصوّر أنّ أصحاب العمائم هم العلماء.وثبت أنّ غالبيتهم رجال سياسة ، لا رجال علم.
من يحكموننا الآن ومنذ قرنين من الزمان لا علاقة لهم بالعلم ولا السياسة . إنهم في مجملهم بيادق يحركها الغزاة الصليبيون واليهود على رقعة الشطرنج التي هي بلاد العالم الإسلامي. عالم الدين وظيفته الأساسية أن يجهر بكلمة الحق، ويوجه الناس إلى الصواب، ويرد الطغاة عن الظلم والفساد في الأرض، أي إن مهمته أقرب إلى المعارضة بمفهوم اليوم. لعنة الله على علماء السلطة وفقهاء الشرطة الذين يحللون الحرام ويحرمون الحلال، ويتحولون من حال إلى حال حسب موقف الطاغية!
عزوف علماء الاسلام القدامى والمعاصرين عن المحيط السياسي بالرغم من مزياه الكثيرة إلا أنه أدى أدى الى مشاكل جمه فابتعد العلماء عن واقع الامة وتشبثو بمصطلحاتهم العلمية ولم يواكبو تطورات الزمان والعصور وهذا ماتسبب في فصل السياسي عن الديني في أرض الواقع بدون إنتباه الامة
عندنا في الصومال مثل يقول “أيهم أكثر الرجال أم النساء، والجواب : الذي نضيف العلماء اليه فهو أكثر ” والمقصد أنه العلماء صاروا لا يعتد بهم في مساءل القيادة والحرب وغير ذالك
….”إن مهمة العلماء ليست تولي القيادة السياسية، وإنما ضبط مسار هذه القيادة وفق ضوابط الشريعة”….
يعنى هناك واجهة سياسية و هناك من يحدد لها الإيقاع….يعنى فى النهاية من يزيد المسار هو من يحكم ….!! سؤال و كيف يقع اختيار هؤلاء العلماء و من ينتخبهم و على اى أساس….و عن اى أمة تتحدث الكاتبة ….هل هناك دولة معنية بذلك …؟
*نعم . مهمة (العلماء ) التوعية
والتثقيف والارشاد وليس الحكم
والسلطة والكرسي.
*مثال يجسد الحالة ؛-
المرحوم الشيخ(الشعراوي) عندما
عينه (السادات) وزير الأوقاف فشل
وقدم استقالته ورجع لدروسه
ف التوعية والارشاد..
CONGRATULATIONS …..YES 4 GNOSIS IN ALL …. TO ACHIEVE EUDAEMONIC BIOS WITHOUT ANY BIAS …. WE NEED MOER CATECHISMOS WITH WELL ENCEPHALO …….
لماذا يحاول البعض اختراع العجلة من جديد ؟ ولى زمن الشريعة لماذا إضاعة الوقت والجهد حتى في ذكرها والتذكير بها وبرموزها ؟ إنه زمن حقوق الإنسان , لقد ولت تلك الأزمان ولن تعود أبدا لننظر للمستقبل , ماذا عسانا فاعلون في الطب ومحاربة الأمراض الفتاكة وفي العلم والتقنيات المختلفة ومحاولة إسعاد الإنسان العربي الشقي الفقير المريض الجاهل ؟ ليستيقظ الإنسان العربي للمشاكل الحقيقية, أو أن ليس له خيار ؟
وما وجه التعارض بين ما تقول وبين الحكم بشرع الله والالتزام بأحكامه؟ أم هو الترديد الببغاوي دون وعي
نعم حقوق الإنسان الكونية تتعارض مع الشريعة الإسلامية….و لا مجال للمقارنة بينهما ….السيد البيضاوى على حق ….نحن فى ق 21 و يجب ان نعامل على هذا الاساس ….
أحسنت يا إحسان!
في الحياة المعقدة والمتشابكة للغاية في أيامنا هذه، لا يمكن لعاقل أن يتصور أن قائداً فرداً يمكنه قيادة أمة، كما لا يمكن أن نتصور بعد ما وصل إليه الإنسان من علوم وتقنيات أن فرداً يمكنه أن يحيط بكل العلوم. يعني بالمختصر انتهى عصر العالم الشامل، حتى في علوم الدين قلما نجد الآن رجلاً (أو امرأة) فرداً يحيط بكل فروع المعرفة الشرعية، بحيث يمكن أن يُقتصر على رأيه دون الحاجة لغيرة.
ومع تطور سُبُل انتشار المعرفة وحفظها و سرعة الوصول إليها، نعيش اﻵن طفرة تتمثل في مضاعفة مضطردة لكمية المعرفة وكمية المتاح منها.
وعليه فلا مفرّ من أن يحاط القائد السياسي بزمرة من المتخصصين، ينصحونه بما لا يراه ويكونون عونا له عند الحاجة. كما لا يجب أن ينفرد عالم في علوم الشرع بفتوى في أمر من الأمور المحدثة، إلا إذا راجع أهل الاختصاص بحيث يكون الأمر مدروساً بطريقة جيدة قبل تناوله. وقول الحق (وأمرهم شورى بينهم) ينصب في هذا المعنى.
أحمد حمدي / ألمانيا