للفلسفة الظاهراتية تأثيرها الجلي في النقاد الألمان، كما أن للفلسفة البراغماتية تأثيرها الواضح في النقاد الأمريكيين، بيد أن مدرسة الجشتالت تبدو أكثر قوة وتأثيرا من هاتين الفلسفتين في النقاد الألمان والأمريكيين. ربما لأن في هذه المدرسة تجتمع الفلسفتان أعلاه معا، يقول كوهلر وهو أهم مؤسسي مدرسة الجشتالت: (إنني لا اعتقد البتة إننا سنتمكن من حل أي مشكلة خاصة بالمبادئ القصوى إلا إذا عدنا إلى مصادر المفاهيم التي تستخدمها) أو لأن ما تهتم مدرسة الجشتالت بدراسته والبحث فيه متنوع يجمع النفسي بالذهني، من قبيل الإدراك والذاكرة والذكاء والذات الفاعلة. وربما لأن الجشتالت في الأساس نظرية فلسفية وتيار في علم النفس تقيم صلات بين البايولوجيا والعلوم العقلية. واتضح هذا التأثير الكبير لمدرسة الجشتالت في نظريات القراءة الظاهراتية الألمانية، وتنظيرات المدرسة الأنكلوامريكية. فكان علم السرد ما بعد الكلاسيكي وليد مدرسة الجشتالت من ناحية النظر إلى العملية السردية ككلية مؤلفة من نصوص أو خطابات غير مغلقة يشترك فيها المرسل والمتلقي وتجري وفق عمليات عصبية وإدراكات حسية في شكل أصوات منطوقة.
وقد تشرَّب منظرو علم السرد ما بعد الكلاسيكي مبادئ مدرسة الجشتالت، ومنها انطلقوا يؤسسون لهذا العلم تقاليده التي فيها تجتمع نظرية السرد بنظرية الرواية. وبتراتبية نظرية طرفاها المتكلم (المؤلف أو السارد) القارئ (الضمني أو الفعلي) أما ما قبلهما وما بينهما وما بعدهما فتركه هؤلاء وفق الفهم الجشتالي للكلية وعلمية الفاعلية الكلامية والكتابية معا، أو انفرادا.
وبسبب تأثر منظري علم السرد ما بعد الكلاسيكي بمدرسة الجشتالت، توجهوا نحو اعتماد الاستنتاج بالنظر الكلي بديلا عن الاستقراء، منطلقين من العموم لا الأجزاء، ومرتكنين إلى البدايات والخواتم أو النهايات، فاعتنوا بالمحصلات، ومن خلالها حاولوا الوقوف على المسببات، ووجهوا اهتمامهم نحو المؤلف والقارئ والقراءة والأبعاد الجمالية والسلوكية للسؤال الإشكالي: من يتكلم ولماذا وكيف؟ ومن هؤلاء المنظرين هيليس ميللر ووالتر ميشيلز وماير إبرامز، وغيرهم من الذين آمنوا بالتداخل بين العلوم والفنون ونظروا إلى اللغة كأساس في تكوين النص والاستجابة إلى معناه، حيث السرد حقل معرفي لا يختلف عن حقول معرفية أخرى كالأيديولوجيا وعلم النفس والاجتماع.
واجترح واين بوث مفهوم المؤلف الضمني الذي ينوب عن المؤلف الحقيقي، وتكلم عن السارد الثقة وغير الموثوق به. وتبعه ريفاتير، الذي اهتم بوظيفة القارئ في الاستجابة للنص، وتحدث عن قارئ فائقsuper reader كتركيب نظري يسجل تأثيرات النص الأدبي، كما اهتم جورج بوليه باستغراق القارئ في العمل، وأنه هو الذي يخرج العمل من صمته ويعطيه وجوده. واهتم جيرالد برنس كثيرا بدور المسرود له داخل النص، فانطلق يرصد تأثيره في القارئ الضمني والفعلي وطبيعة استجابتهما له. فوجد أن للمسرود له صورة وسطية تكمن بين المتكلم في النص وقارئ النص. بيد أن هذا التكثيف البحثي في التوجه نحو القارئ أوقع المنظرين الأنكلوأمريكيين في تضادات، بها ناقض أحدهم الآخر أو تعارض معه. فوالكر جبسون في طرحه لمفهوم (القارئ الصوري) mock reader في مقالته (المؤلفون والمتكلمون والقراء الصوريون) يتصادى مع طرح برنس لمفهوم المسرود له، لأن المؤلف بالنسبة إليهما يظل حقيقيا، لكنه غير المتكلم الذي هو متخيل ويوجه كلامه إلى مسرود له متخيل، يضع عليه جبسون قناعا فيتحول إلى قارئ حقيقي؛ فكيف إذن نقيس المسافة بين المسرود له والقارئ الصوري، ونحن لا نجد اختلافا في وظيفتيهما، لأنهما يعنيان بتلقي ما يقوله المتكلم والتظاهر بالفهم الذي يقودهما إلى الفهم النهائي، وهما بهذا إنما يستجيبان كاستجابة قارئ فعلي يقرأ نصا سرديا؟
هذا الاختلاط بين المفاهيم مرده إلى تمازج الرؤيتين النصية والخارج نصية، وبهما تتكشف مغالاة النقاد الأنكلوأمريكيين في التركيز على القارئ والقراءة. وتتعقد الفاعلية السردية أكثر، وتصبح الاستجابة لها ملتبسة من ناحية وجود مؤلفين اثنين وقارئين اثنين، وبينهما سارد ومسرود له.
ويتضح التصادي أكثر في السرد غير الواقعي الذي فيه يكون المتكلم مشتبكا مع المؤلف من جهة ومشتبكا مع المسرود له من جهة أخرى؛ فكيف بعد ذلك تكون للمسرود له صورة بعدية قرائية هي سابقة لصورة سيمثلها من بعده قارئ حقيقي؟ وإذا كان هذا القارئ يميز بين وجوده ووجود صورة قبلية سابقة له، أفلا يقدر أيضا على التمييز في استجابته القرائية بين المتكلم والمؤلف؟
هذا الاختلاط بين المفاهيم مرده إلى تمازج الرؤيتين النصية والخارج نصية، وبهما تتكشف مغالاة النقاد الأنكلوأمريكيين في التركيز على القارئ والقراءة. وتتعقد الفاعلية السردية أكثر، وتصبح الاستجابة لها ملتبسة من ناحية وجود مؤلفين اثنين وقارئين اثنين، وبينهما سارد ومسرود له. ومن الحقيقي وجود مؤلف واحد كتب نصا سرديا ووجهه إلى مستمع أو قارئ. وما على هذا القارئ سوى أن يستجيب مؤولا حتى لا مسافة بين المسرود له والقارئ الصوري، ما لا نكاد نجد قصة أو رواية تخالفه، بل أقدم النصوص تخضع له.
واحتلت مسألة من يتكلم في الرواية أو القصة اهتمام منظري علم السرد ما بعد الكلاسيكي، ومن خلالها وجدوا منفذا قويا منه يلجون إلى مناطق لم يسلط عليها منظرو علم السرد البنيوي الاهتمام الكافي من ناحية أن تحليلاتهم وحججهم لم تكن وافية في تعليلاتها، ولا مواتية نحو مزيد من البحث في أبعادها، فاتخذها المنظرون ما بعد الكلاسيكيين ثغرات وشككوا في جدوى بعض مفاهيمها، كما وجدوا في إهمال جوانب من السرد الروائي والقصصي دليلا يؤكد صعوبة أن تكون تخريجات المنظرين البنيويين لفواعل العمل السردي شاملة وعامة. وصار (المتكلم في الرواية) واحدا من المفاهيم المشكَك فيها، وهو عند البنيويين السارد الذي يقوم بالفعل السردي بضمير أنا أو أنت أو هو، فيكون من ثم متكلما تاليا لمتكلم أول هو المؤلف الضمني الذي هو ذات ثانية للمؤلف الحقيقي، بينما السارد عند المنظرين ما بعد الكلاسيكيين هو الناطق الذي يحكي ما يجري من أفعال، وما بين القيام بالفعل والنطق به مسافة مشتبكة، غير مفترضين وجود مؤلف ضمني في البناء السردي، بل هو حقيقي وبنية قبلية في السرد. وإذا ظهر فهو سارد ذاتي يتلو بنية الحكاء المرتبطة صورته بصورة المؤلف الحقيقي والمفصول في بنائه الفني عن بنيتي الساردين الذاتي والموضوعي.
وإذا كان صوت الحكاء يظهر كفاعل مهمته الافتتاح والاختتام، فإن السارد يظل موصوفا بأنه الفاعل الذي يتجلى حضوره في صوته الناطق، إذا كان سرده بضمير الغائب أو المخاطب. أما إذا كان سرده بضمير الأنا فسيكون فعله التمثيلي مضافا إلى صوته. ومعلوم أن لا فعل تمثيليا للسارد دون نطق صوتي، لكن من الممكن أن يكون نطق السارد صوتا ينوب عن مجموعة فاعلين يؤدون أدوارهم صامتين. ولا يفرق أمر النطق والتمثيل إن كان التلقي سماعيا، أو كان قرائيا، كما لا تباين إن كان السرد تصويريا أو دراميا.
كاتبة عراقية