إذا كان منظرو السرد البنيوي قد اهتموا بمعرفة من يقوم بالفعل لأنهم به يتمكنون من تحديد الأدوار البنائية للمسرودات والمسرود له، وتأثير ذلك في توجيه القارئ ضمنيا وفعليا، فإن منظري السرد ما بعد الكلاسيكي يرون في ذلك تمويها لدور السارد بضمير الأنا، ومغالطة في فهم وظيفة القارئ خارج البناء السردي، لكن ماذا لو كان الاهتمام منصباً على الاثنين معا، أعني من ينطق بالألفاظ ومن يقوم بالأفعال؟ ألا يكون في اجتماعهما النظري تجلية أكثر للفاعلية السردية من ناحية دور المنتج السردي بصفته حاضرا على صعيدي التأليف والتلقي؟ وإذا افترضنا أن المتكلم بضمير الأنا هو المقصود في التركيز على البعد اللفظي للنص، فإن في ذلك إجحافا بحق السارد بضميري الغياب والخطاب مع ملاحظة كثرة استعمال صيغة الغياب في السرد الروائي، لاسيما الكلاسيكي؟ وماذا عن القص القديم الذي فيه السارد لا يمسك بزمان السرد، متكلما كان أم غائبا، على أساس أن هناك من يهيئ له دخول السرد، كما يمهد له الخروج أيضا وأعني به الحكاء مما نجده واضحا في حكايات ألف ليلة وليلة مثلا؟
لا شك في أننا لو قلنا إن في هذه الحكايات مسافة ما بين المؤلف والساردة المتكلمة (شهرزاد) ثم مسافة أخرى بينها وبين مسرود له هو قارئ صوري، لما كان للمستمع/ المتلقي الذي هو شهريار أن يتابعها، ولما كان لشهرزاد أن تستمر في حكاياتها وتنفذ هدفها أيضا، إذ أن المتكلم السارد هو صانع مسروداته ولا حاجز بينه وبين من يسرد له، والدليل هو تضامن فاعليتي المؤلف والمتلقي تضامنا تبادليا، بمعنى ان إحداهما آتية من الأخرى، ومتى ما توقفت واحدة منهما كان في ذلك توقف الثانية، حتى إذا ما مدّ المؤلف سارده بالحكايات استمر المتلقي في مهمة استقبال السرد والتحفز على الاستماع والاستجابة.
إن اهتمام منظري علم السرد ما بعد الكلاسيكي بـ(من يتكلم في الرواية؟) أوقعهم في إشكالية الفصل بين من يسرد ومن يؤلف، ومن ينتج ومن يتلقى. فاختلطت وظائفية الضمائر السردية الثلاثة (التكلم والغيبة والخطاب) فيما بينها. صحيح أن إعادة النظر إلى النص السردي كفاعلية كلية داخلية أمر مهم، لكن الانطلاق مما هو قبل هذه الفاعلية مهم أيضا من ناحية المؤلف وقصدية تأليفه نصا سرديا، التي هي مهمة كأهمية الانطلاق مما بعد فاعلية التأليف من ناحية تلقي القارئ للنص والاستجابة له وتأويله.
إن لكل من المسرود له والقارئ الفعلي والمؤلف والسارد المتكلم دوره وشأنه ووظيفته، لكن اقتراب كل واحد من الآخر يجعل التمييز غير واضح. فمن يتخيل يغدو هو المؤلف الفعلي، ومن يستجيب يغدو مثاليا في تأويلاته وفك شيفرات النص حتى لا مسرود له ممكن أن يسبقه، أو مؤلف هو مختف في درجة الصفر لكن له وجوده الحقيقي.
إن المقارنة بين مفاهيم منظري علم السرد الكلاسيكي التي فيها كانت الحظوة لتصورات نابعة من التأثر بمدرسة الجشتالت، ومفاهيم منظري علم السرد ما بعد الكلاسيكي المستنيرة في كثير من توجهاتها بالفلسفة البراغماتية والظاهراتية، تكشف عن وجود تقاطع وعدم تكامل بين العلمين البنيويين: الكلاسيكي وما بعد الكلاسيكي لجملة أمور يصح أن تطرح نظريا، لكنها لا تصح عمليا أو بالعكس، فتتولد عنها التباسات على مستوى الواقع النصي للسرد عامة، والسرد غير الواقعي بوجه خاص. فنص مثل (دون كيخوته) يزخر بوجود خطابات موجهة لمسرود له، لكن الاطمئنان متحقق من لدن قارئ تَحَفز لاستكمال تلقي السرد وقراءته وتأويله ولا يهمه إن كان المتكلم في النص يخاطب شخصا محددا، أم كان يخاطب شيئا متخيلا، فليس ثمة مسرود له يقطع الطريق على القارئ، ويطلب منه أن يوليه اهتماما كي يحقق معه اتصالا، فهو الطريق الواصل ما بين السارد وبينه، كما أن لا مسرود له عليه أن يستجيب لسارد يريد منه أن يكون حلقة وصل بينه وبين القارئ، إنما العمل متكامل في إبداعية وجود متكلم يوجه كلامه إلى متلق خارجي. ولا فرق إن كان الكلام شفاهيا أو مكتوبا، حيث السارد والمسرود والمسرود له عبارة عن أطراف ذات أدوار تتحقق بوجود بعضها مع بعض كوحدة كلية، ليست بينها مسافات يمكن حسابها في تأدية هذه الأدوار.
وهذه الكلية التكاملية بين المؤلف والقارئ هي انعكاس لمتوالية الوظائف التي تؤديها الأطراف السردية، بتقابل أو تماثل أو استلحاق، وقبل ذلك هي تدليل على التأثير الجشتالتي في المدرسة الأنكلوأمريكية وما تعمل عليه من ناحية التعدد والتنوع والتداخل. ولو كانت هذه المسافة موجودة قيد أنملة، لتفتت عضد تلك الكلية، واستحال من ثم على المؤلف تأدية وظيفته الإرسالية أو الإبلاغية. وعدم نجاح المؤلف في مهمته يعني أن عمله مفكك وغير مترابط فلا يستحق من ثم استجابة من لدن القارئ.
إذا كان باختين قد تكلم عن الحوار الأحادي والتعددي، وكان تشاتمان قد فرق من ناحية التجلي والاختفاء بين سارد ظاهر وآخر متوار، وفصل جينيت بين السرد الشخص الأول homodiegetic وسرد الشخص الثالث herodiegetic ، فإن مانفريد أخذ بطريقة ستانزل في التفريق بين السراد من ناحية المواقف السردية النموذجية التي عن طريقها يعرض السرد كما أخذ بطريقة سوزان لانسر في التفريق بين ضمائر الجنسوية.
أما مسألة إعطاء أحد الأطراف دورا أكثر من غيره، فلن تخلو من التمحل كما حصل مع جيرالد برنس وهو يحاول تخصيص وظيفة للمسرود له سماها ـ أو بالأحرى نحتها ـ بـ(disnarrated) كنوع من ابتداع مفاهيم تنفرد باجتراحها والتمثيل عليها المدرسة الأنكلوأمريكية. ويظهر التمعن في موجبات أو مسوغات اجتراح بعض هذه المفاهيم، نوعا من التعقيد الذي به زاد منظرو السرد ما بعد الكلاسيكي الطين بلة، فتشابكت المسافات الوهمية بين الفواعل السردية، ومعها تبدى ضعف أدوار هذه الفواعل ووظائفها السردية، ومدى معقولية كل وظيفة في التعبير عن واقعية الكلام السردي أو لا واقعيته.
وأخذ الأمريكي يان مانفريد على البنيويين قولهم، إن السارد كيان نصي وإن القصة قول، ورأى أن السارد كما في الحياة الحقيقية يواجه القارئ كشخص من لحم ودم، وعلى خط واحد مع المؤلف. ومثاله على ذلك رواية سالنجر «الحارس في حقل الشوفان»1951 التي فيها نرى السارد ونسمعه، وقد يكون متكلما بضمير (هو أو أنت) وفي هذه الحالة يكون هناك عدد من العلامات يمكنها ان تبرز صوته. وحدد مانفريد علامات الصوت voice markers بثلاث هي: المحتوى، التعبيرات الشخصية، الإيماءات التداولية. وبهذه العلامات لا يكون هناك خلط بين السارد والمؤلف، كما أن الصلة التواصلية تكون محتملة بين: المؤلف والقارئ على مستوى التواصل اللاتخيلي أو اللاروائي، والسارد والمتلقي على مستوى التوسط التخلي أو الروائي، وبينهما وبين الشخصيات على مستوى الحدث.
وإذا كان باختين قد تكلم عن الحوار الأحادي والتعددي، وكان تشاتمان قد فرق من ناحية التجلي والاختفاء بين سارد ظاهر وآخر متوار، وفصل جينيت بين السرد الشخص الأول homodiegetic وسرد الشخص الثالث herodiegetic ، فإن مانفريد أخذ بطريقة ستانزل في التفريق بين السراد من ناحية المواقف السردية النموذجية التي عن طريقها يعرض السرد كما أخذ بطريقة سوزان لانسر في التفريق بين ضمائر الجنسوية. ولا تخفى محاولة مانفريد كغيره من نقاد المدرسة الأنكلوأمريكية التظاهر بالاستحداث في ما يحاول إعادة تدويره من مفاهيم البنيويين وما بعد البنيويين. ومن تدويرات مانفريد المفاهيمية في هذا الصدد:
1 ـ إن وجود السارد حيا داخل النص لا يعني أنه من يقوم بالحكي، بل حاكي القصة هو المؤلف الذي يقوم بالحكي الخارجي، متأقلما مع خيال القارئ بوجهة نظر سماها (الغمر أو التحول إلى الوهم).
2 ـ سمى السرد الذي يعرض أحداث القصة بعين الشخص الثالث بـ(السرد الصوري) وسارده متوار وغير متجانس.
3 ـ سرد السكاز skaz narrative ويعني شكلا أدبيا يعرض موقف حكي القصة شفويا وفيها يحكي المتكلم القصة لجمهور حاضر مع وجود عال للعناصر الوصفية والعاطفية.
4 ـ showing هو الإظهار أي أن يعطي السارد للقارئ دور الشاهد على الأحداث. أما telling فهو الإخبار وذلك يكون السارد هو المراقب على عرض الحدث والتشخيص.
5 ـ المسرود له في درجة الصفر: هو لسان السارد ووظيفته تتحدد في المطابقة، عارفا القواعد السردية ودلالة الأبعاد الزمانية للسرد وله ذاكرة موثوقة في ما يتعلق بوقائع السرد، حيث القارئ لا يملك أي معرفة بالشخصية ولا يعرف أي شيء عن الوقائع وغير مطلع على النصوص.
كاتبة عراقية