يعد ديفيد هيرمان من أهم المنظرين الأمريكيين المهتمين بالتعدد الاختصاصي وتفريع علوم جديدة تندرج في علم السرد ما بعد الكلاسيكي. تشهد على ذلك مؤلفاته النقدية النظرية منها والإجرائية. وفيها نجد هيرمان ميالا بشدة إلى تعميق فكرتي التعدد والتفريع، وهو الذي وضع أساسات علم السرد المعرفي وكرّس جزءا كبيرا من مشروعه النقدي لدراسة العلاقة بين العقل والسرد. وفي كتابه (علم سرد ما وراء الإنسان: حكاية الأقوال وحياة الحيوان) الصادر بطبعته الإنكليزية عام 2018، يفترع هيرمان علما جديدا هو (علم سرد ما وراء الإنسان) وفيه يتعمق بدراسة العلاقة بين الإنسان والحيوان.
ولا غرابة في هذا الأمر؛ فالإطار العام الذي عليه قامت المدرسة الأنكلوأمريكية وبه تميزت هو تطوير العمل على تعدد التخصصات الذي فيه لعلوم السرد المركزية والأولوية. ويدور موضوع الكتاب حول الذاتين البشرية وغير البشرية، وكيف يمكن لهما أن تكونا منتجتين لسرديات الذات، فتجتمع في السرد الأنواع الحية ويكون للنوع غير الناطق اشتراك مع النوع الناطق، متجاوزا الإنسان إلى ذوات أخرى فردية أو جماعية.
وما يسعى هيرمان إلى بلوغه في هذا الكتاب هو البناء على ما توصلت إليه الأبحاث السردية والاجتماعية والنفسية، من نتائج اعتمدت فيها فكرة تقاطع التخصصات Cross-disciplinarity التي عليها قام التأسيس الأولي لعلم السرد في ستينيات القرن الماضي وتجلى نظامه في ما بعد السبعينيات والثمانينيات. ويؤكد هيرمان أن منظري السرد البنيويين – الذين عدوا البنيوية «علما رائدا» في دراسة السرد ـ استبعدوا او انحرفوا عن التخصصات الأخرى كالأخلاق والنسوية وعلوم الإدراك والوسائط الرقمية وعلوم الأحياء والنقد البيئي وغيرها. فكان أن اتجهت مساهمات علماء السرد اللاحقين نحو توسيع نطاق السرد عبر العمل على فكرة تعدد التخصصات Interdisciplinarity وأن تكون للسرد أطر عمل تكاملية جديدة. ويشير هيرمان إلى أن انتشار دراسات التعدد الاختصاصي ساهم في تنوع الأبحاث بشكل مفيد. ومن ذلك البحث في القصص التي تتضاد فيها الممارسة القولية storytelling بين أنواع ساردة موثوقة وغير موثوقة، خيالية وغير خيالية، وفيها تتقابل أيضا وسائل الميديا والعصور التاريخية والسياقات الثقافية فيكون الحيوان متجاوزا الإنسان، أو مشاركا معه. وليس المحك سرد الإنسان أو سرد الذات البشرية the human self، بل هو دمجها مع ذوات غير بشرية.
ومثال هيرمان التطبيقي على ما تقدم هو قصة قصيرة عنوانها (فوق وتحت Above and below )2011 للكاتبة الأمريكية لورين غروف ( 1978) نظرا لما في هذه القصة من مناح تدلل على علم سرد ما وراء الإنسان، وما يمكن دراسته من مجالات ومسارات قد تؤدي إلى إعادة صياغة بعض مفاهيم السرد وسياقاته، آخذا بنظر الاعتبار الأفكار التي طورها منظرو السرد سابقا وما قد تثيره من أسئلة جديدة حول طبيعة العلاقة بين الإنسان والحيوان. ويرى هيرمان أن مسعاه في هذا العلم لا يتضاد مع علم السرد المعاصر، لكنه يتطلب مزيدا من البحث والتوسيع، لأن المنظرين السرديين اعتادوا على اتباع أساليب معينة، تحتاج إلى التحسين والتنويع كي تتلاءم والابتكارات المستمرة في عالم السرد. وهذا ما يقوم به علماء السرد ما بعد الكلاسيكي، مطورين المفاهيم ومعززين الدراسة السردية بنماذج وأطر جديدة.
ولا يبحث هيرمان في السرد الذي فيه تكون البطولة للحيوانات؛ فهذا ليس بالجديد، بل عرفته الرواية الكلاسيكية والحداثية كما في رواية «الجمال الأسود» لآنا سيويل1877، ورواية «فلاش» لفرجينيا وولف 1933، ورواية «المستنقع» لآن مور 1984-1987 ، بيد أن الذي يبحث عنه هيرمان هو السرد الذي فيه تتعابر الذوات الساردات، وهو ما وظفته الكاتبة غروف في قصتها «فوق تحت» مستعملة أشكالا وعلاقات، تجعل علاقة الإنسان بالحيوان متحولة وعابرة من ناحية الهوية ودينامية العلاقة مع الذوات غير البشرية Nonhuman Selves والمنتجة من ثم لسرديات الذات Self-Narratives . وقد أقلم هيرمان مقولة سردية الذات بما طرحه كينيث ج. جيرجن وماري م. جيرجن في أبحاثهما الأنثروبولوجية من أفكار وتصورات حول أنطولوجيا الثقافات متنوعة المشارب، مفيدا منها في فحص البنية السردية لقصة «فوق تحت».
ويؤكد هيرمان بدءا من عنوان القصة فاعلية التعابر بين الذوات، مسلطا الضوء على الرابط المكاني في فهم علاقة الإنسان بذوات أخرى وبسببها تتعرض الأقوال السردية للشك وقد لا تجد قبولاً على الإطلاق. يقول هيرمان: (الذات الساردةprotagonist التي لها المركزية في هذه القصة هي أنثى لم تذكر الكاتبة اسمها تعيش في ما وراء حياة كانت قد عاشتها حين كانت طالبة دراسات عليا في تخصص الأدب في جامعة فلوريدا فواجهت تقلبات التشرد على مدى ثمانية أشهر) ومن خلال سرد الذات تفهم الطالبة تجاربها السابقة. ولم تستعمل الكاتبة علامات التنصيص التي هي معهودة في السرد الذاتي، بل داخلت الحكي السردي بالتمثيل الفكري ومزجت بين الكلام التقريري ولحظات التأمل الإدراكي المونولوجي، فأصبحت العلاقة بين الذاتين البشرية والماورائية في أقصى درجة من الانسجام وامتد عالم السرد إلى ما هو أبعد من النوع البشري، وهو ما يتطلب من القارئ إعادة بناء القصة كي يميز بين هاتين الذاتين اللتين تتقاسمان العالم السردي؛ ذات من يتكلم/ الإنسان وذات ما يتكلم/ ما وراء الإنسان. وأفاد هيرمان في دراسة سردية الذات من أبحاث جيروم برونر ودانييل هوتو وأندريا ريتيفوي وماكنتاير وفيفروس دي كاسترو الذي درس أنطولوجيا شعب الهنود الحمر وكيف كان يدرك الواقع من خلال وجهات نظر فئات لا فرق فيها إن كانت بشرا، أم حيوانات وكذلك دراسات إدواردو كوهن للكيفية التي بها يمثل البشر الحيوانات، وفق تفاعلات يومية دائمة، فالعالم لا يشكله البشر وحدهم، بل هم في حالة تفاعل دائم مع بيئتهم، أو ما يسمى بعلم بيئة الذوات Ecology of selves»».
إن السرد الذي يتجاوز الإنسان إنما يأخذ على عاتقه مهمة أخرى بالغة الأهمية وهي أن يحدد السرد لا بالإنسان وحده، بل يعبر إلى غيره، فيغدو المجتمع اكبر بكثير من ذاك الذي تقره المعايير العلمية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية. والقصص التي تمتد فيها الذات الساردة protagonist إلى ما هو أبعد من الإنسان إنما تدلل على الحاجة إلى إيجاد طرق ممكنة للعيش يعتمد عليها استمرار الحياة على الأرض. وفي قصة «فوق تحت» تنتقل الأحداث السردية من بيئة مقيدة بذات إلى بيئة متعددة الذوات، تكتسب الفاعلية وتكون لها قدرة أكبر على السيطرة على الذات البشرية، ما يكشف تصدع القيم وتناقض وجهات النظر بين ما هو خيالي وغير خيالي.
وأفاد هيرمان من كتاب الباحثة الأمريكية كاري روحمن المعنون (ملاحقة موضوع الحيوان والحداثة ) وفيه درست تلاقي الذات البشرية بالذات الحيوانية، مهتمة بمسألة الوعي الحيواني داخل السرد الإنساني، وما يسببه من وضع متناقض يجرد الإنسان من هويته جسديا وعقليا. واستحضرت آراء جاك دريدا وجورج باتاي وطبقتها على أعمال روائية لجوزيف كونراد ولورانس وبارنز وغيرهم من المؤلفين الذين استثمروا علاقة الانسان بالحيوان، فأعلوا الوعي الحيواني قالبين المعتاد الذي فيه المركزية للوعي الإنساني. ولهذا كله عدّ هيرمان كتاب روحمن تطويرا للنظرية السردية الحديثة التي ما وجهت اهتمامها سوى للتطور التاريخي ومسائل الإمبريالية ومناهضة العقل والتحليل النفسي.
وتجدر الإشارة إلى أن اجتراح هيرمان لهذا العلم ليس الأول في كتابه موضع الرصد، بل كان قد سبقه قبل عامين بدراسة عنوانها (أدب ما وراء الإنسان Literature beyond the Human ) وهي مقدمة كتاب حرره هيرمان وعنوانه (السرديات الإبداعية: علاقة الإنسان بالحيوان في أدب القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين). وضم دراسات لمجموعة باحثين خبراء ودارسين شباب. ووصف هيرمان هذا الكتاب بالمشروع الأكثر عمومية لبناء ما سماه (النظرية في مجال الدراسات الحيوانية الأدبية) والبحث في كيفيات ارتباط الأفكار بين الإنسان والأجناس الحيوانية والأنواع الخيالية في النصوص الأدبية المنشورة في القرنين العشرين والحادي والعشرين، كقصص فرانتز كافكا ورواية «كلبي توليب» 1956 للكاتب البريطاني جيه آر أكيرلي (1896-1967) و»الصياد» للأسترالية جوليا لي (1970) و»حياة باي»2001 للكندي يان مارتل (1963) و»الحوت المتصل» 2005 للجنوب أفريقي زاكس مدا (1948) وغيرها.
ويطلق هيرمان على هذا النوع من القصص والروايات اسم السرديات الإبداعية التي فيها يكون الخيال مبتكرا ابتكارات تجمع بين مرحلتي الرومانسية وما بعد الاستعمار، وفيها تكون لصورة «الحيوان» أصداء أسطورية وبيولوجية وبيئية واجتماعية وتاريخية وسياسية، تتضاعف فاعليتها بتفاعل الإنسان مع الحيوان. وهدفه من هذا الكتاب هو التدليل على إبداعية النصوص الناجمة عن تشابك أنماط مختلفة بشرية وحيوانية وتطوير أساليب مبتكرة لدراسة الحيوات غير البشرية، خاصة في تفاعلاتها مع الشخصيات الإنسانية وما قد تثيره من أسئلة حول الهوية والهيمنة ما بعد الاستعمارية والجنس والخيال الرومانسي.
ويرى هيرمان أن الإجابة عن هذه الاسئلة تتطلب تضافر جهود الباحثين في مجال البحث متعدد التخصصات، وبما يفتح مسارات جديدة تجمع بين علماء الأدب والفلاسفة والمؤرخين والعلماء العاملين في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية والأخلاق وعلم البيئة وعلم الأحياء التطورية. وبالشكل الذي يحفِّز على فهم جديد لعلاقة الإنسان بالحيوان، تتجاوز نطاق المجتمع الانساني وتتجه نحو سد الفجوة الثقافية ومعالجة مشاكل البيئة وتناقص التنوع البيولوجي.
كاتبة عراقية