لندن- “القدس العربي”:
يتلقى شاب مصري يعيش في لندن اتصالاً ليلياً من صديق له في القاهرة، يطلب منه أن يتكفل بإجراءات دفن شاب سوري لا يعرفه، حيث توفي غياث وحيداً في غرفته في لندن، بعد أن وصل إليها في رحلة أحداثها أقرب إلى الخيال، هارباً من الجحيم والعنف في بلاده. وإن كانت هذه القصة تفتتح أحداث رواية «على خط جرينتش» للكاتب والصحافي المصري شادي لويس، لكنها ليست القصة الوحيدة المركزية في أحداث العمل الصادر حديثاً عن دار «العين»، حيث تظهر شخصية جديدة وطبقات من التفاصيل والحكايات مع كل فصل من فصولها الثمانية.
تكشف الرواية الثانية للويس، بعد «طرق الرب» (الكتب خان)، عن حياة معقدة لمجموعة من الشخصيات (معظمهم من المهاجرين) متأرجحة بين عالمين ولونين وهويتين أو ربما أكثر، ولحظات من سوء الفهم قد تنقلب في طرفة عين إلى عنف، ثمة بيبسي التي تحاول أن تحل مسألة أنها سوداء في عالم أبيض، بأن تدهن نفسها بالطبشور، وهناك كاتجيبنا الشرق أوروبية التي تؤمن بدفن الخاسرين اجتماعياً في قاع المجتمع، أما كايودي القادم من نيجيريا فهو صاحب نظرية عجيبة عن العرق واللون.
تفتش «على خط جرينتش» في أثر الاغتراب ومواجهة العنصرية، التي تبدو كما لو أنها خفيفة وعادية ويومية، إلى جانب الشعور بالخوف من فقدان البقعة الجديدة التي تمشي هذه الشخصيات عليها؛ أمور يعيشها أفراد يحاولون الصمود يومياً في مكان آخر، حيث أكبر اعتراف يعتقدون أنهم حصلوا عليه هو التعيين في وظيفة رسمية. ورغم ما يتعرضون إليه من عنف يبدو أنه خفي بشكل ما – كما نكتشف ذلك من منظومة الرعاية الاجتماعية، التي يعمل فيها الراوي وطريقة عملها- إلا أنهم قد يشاركون هم أنفسهم في استمرارية هذا العنف نفسه. تتنقل المشاهد من خلال الراوي الأساسي بين القاهرة ولندن، فنعود معه إلى عائلته الأولى، كما نقرأ مأساة عائلة غياث ال في القاهرة، ونقرأ من خلال قصص صغيرة ومتفرقة قصص التمييز والعنصرية بكل أشكالها؛ ضد المسيحي القبطي وضد اللاجئ الفلسطيني أو السوري، وضد المسلم نفسه إن لم يكن سنياً، وهي حالة لا يبدو أنها تنتهي مع انتقال الراوي إلى حياة جديدة في بريطانيا، بل إنها تأخذ أشكالاً أخرى، قد ترتبط باللون والأصول المشرقية وتأخذ تعقيدات أخرى.
ورغم أن معظم شخصيات العمل غريبة الأطوار ولا تلتقي ببعضها، إلا من خلال الراوي، الذي يبدو أنه الخيط الوحيد بينها، لكنها في حقيقة الأمر شخصيات مرآتية الواحدة منها تعكس صورة مختلفة عن الأخرى، كما أنها تشترك في كثير من محاولات البقاء في عالم جديد بينما يطاردها عالمها القديم، وسنرى ذلك جلياً في مصح للمرضى النفسيين، حيث يلخص الراوي قصة معاناة المرأة المهاجرة، وكيفية تعامل «السيستم» معها، من خلال ملف لإحدى المريضات (التي ستلقى حتفها في المصح نفسه)، بعبارات تختصر كل شيء «الخليط المعتاد؛ خبرات سيئة في الماضي، مشاكل في التواصل اللغوي، عنف منزلي، بطء في الإجراءات الإدارية».
يضبط الكاتب إيقاع الزمن فيدير أحداث روايته في ثلاثة أيام، ويضبط المكان من خلال الوصف والتأمل فيه، فيرسم صورة عن لندن وشوارعها وأحيائها، ويقترب بعدسة سينمائية من وصف المكان واختلاق فلسفة لتفسير أسباب السنتمترية التي اختارتها المدينة لنفسها، وحتى أنه يحاول تفسير العادات اليومية الجديدة التي بدأ الراوي نفسه يمارسها.
تقترح رواية «على خط جرينتش» على قارئها مغامرة جديدة وأسئلة معقدة، رغم ذلك لا تخلو من حس الفكاهة والمواقف العبثية والحوارات السيريالية، حيث كل فصل محطة مختلفة، لكن كل هذه العبثية تعود في لحظة ما إلى الحكاية الأم: لماذا يموت شاب وحيداً بعد أن قطع كل هذه المسافة الدامية من سوريا إلى لندن؟ ولماذا يجد شاب آخر قطع مسافته من مصر إلى لندن نفسه في لحظة ما مسؤولاً عن موت لا يخصه؟ ولكن ما الذي أتى بهؤلاء أساساً إلى لندن؟