تونس ـ «القدس العربي»: في أعالي جبال شاتلو العروسة من ولاية سليانة شمال غرب تونس، تنهمك الحرفيات في جمع نبتة إكليل الجبل منذ ساعات الصباح الأولى لنقله في حزم كبيرة إلى مجمّع التقطير في منطقة العروسة. وإكليل الجبل أو الـ Romarin هو من النباتات العطرية التي تتواجد بكثرة في مناطق الشمال الغربي التونسي، ويبدأ موسم جنيه وتقطيره من بداية حزيران/يونيو حتى أوائل شهر آب/اغسطس من كل عام وهو يوفر فرص عمل للكثيرين من سكان المنطقة.
و»على درب الإكليل» تظاهرة ثقافية وتراثية تتضمن ورشات تكوين وتدريب وجولات سياحية ايكولوجية في أحضان الطبيعة التونسية، وتهدف إلى جعل الزائر يعيش تجربة جمع الإكليل وتقطيره، على درب الحرفيات اللواتي يقطعن يوميا مسافات كبيرة على الأقدام متحديات كل أنواع الصعوبات من أجل الوصول إلى نبتة الإكليل وقطفها بطرق صحية سليمة تراعي الحفاظ على الثروات الطبيعية. وهذه الفعالية هي جزء من برنامج متكامل لدعم الصادرات الحرفية في تونس ويسمى مشروع «آسيّا» أي العمل التعاوني للصادرات الحرفية والذي انطلق منذ سنوات بدعم من عدة منظمات وهيئات محلية ودولية مثل المنظمة الدولية لصحة الأسرة بالشراكة مع الديوان الوطني للصناعات التقليدية، وبدعم من السفارة الأمريكية في تونس، وبتنظيم من «دويت» وهي شركة اجتماعية تونسية ناشئة تتمثل مهمتها في التعريف بالحرف اليدوية من خلال تقديم عروض ترفيهية للأفراد تركز على التعلم والانغماس والمشاركة.
منافع الإكليل
تروي الحرفية سنية القمودي رئيسة مُجمّع تقطير الإكليل «صفا» في منطقة العروسة بولاية سليانة لـ« «القدس العربي» قصة تجميع الإكليل وتقطيره باعتباره جزءا من التراث والموروث اللامادي للمنطقة، فتقول: «منطقتنا الجبلية في العروسة من ولاية سليانة ومناطق الشمال الغربي بشكل عام غنية بنبتة إكليل الجبل، وهي من النباتات العطرية التي لها العديد من المنافع والأسرار الطبية والصحية والتجميلية. ونحن في مُجمّع صفا نشتغل على تقطير الإكليل بطريقة حديثة حيث يتم استخراج الماء والزيت منه». وتضيف: «لزيت الإكليل منافع عديدة صحية فهو مفيد للجهاز التنفسي ويمكن أيضا توظيفه في صنع أدوات التجميل بطريقة بيولوجية صحية على غرار مرطب الشفاه والوجه والشعر والشموع المعطرة وهي كلها منتجات خالية من المواد الكيميائية المضرة بالإنسان، ونقوم كذلك بصناعة صابون الإكليل على البارد وبطريقة صحية». وتضيف محدثتنا أن موسم جني الإكليل يبدأ من شهر حزيران/يونيو ويتواصل حتى شهر آب/أغسطس ثم تقوم الحرفيات بتجفيفه وفصله عن الأعواد وبعدها تتم عملية تقطير أوراق الإكليل».
دعم السياحة البديلة
وفي تظاهرة «على درب الإكليل» شارك عديد الأفراد سواء تونسيين أو من السياح الأجانب في يوم خاص لخوض تجربة تقطير الإكليل وصنع المنتجات الصحية منه، وذلك في مجموعة ورش، مثل ورشات صناعة الشموع أو صناعة الصابون وغيرها التي تمت على إيقاع سكون الطبيعة ورونقها الساحر. فكان يوما للعودة إلى الطبيعة الأم وكأنها استراحة المحارب من ضجيج الحياة ونسقها المتسارع في العاصمة والمدن الكبرى. فهنا لا شيء يطغى سوى لون الإكليل الأخضر برائحته المفعمة بالأمل والنشاط والتي تعيد بهجة الحياة إلى النفوس المنهكة.
وفي الآن نفسه تهدف الفعالية إلى دعم السياحة البديلة أو السياحة الايكولوجية في تونس حسب ما تؤكد هيفاء بن سعود مديرة البرامج في «مشروع العمل التعاوني للصادرات الحرفية» وتوضح لـ«القدس العربي» ان الهدف من المشروع هو تنمية الصادرات الحرفية عن طريق دعم سلاسل القيمة، وتقول: «نقوم بأخذ قطاع حرفي معين ونشتغل على دعمه من أوله لآخره مع الحرفيين والمروجين ومع السلطات المحلية حتى نقوم بإيصاله للمعني سواء التونسي أو الأجنبي ونجد لهذا المنتوج أسواقا في الخارج وخاصة في السوق الأمريكية والتي تعتبر الأولى فيما يتعلق بالصادرات الحرفية في تونس ككل». وأضافت: «هذا المشروع يدعم 4 قطاعات حاليا هي قطاع النباتات العطرية والطبية الذي بدأ منذ 2018 وفي سنة 2020 بدأنا بدعم قطاع خشب الزيتون في سيدي بوزيد وصفاقس، والسنة الماضية بدأنا بدعم قطاع النسيج الجبلي في منطقة توجان في ولاية قابس. والأسبوع الماضي بدأنا بالعمل على قطاع الفخار التقليدي. والهدف من كل هذه البرامج هو دعم الحرفيين والحرفيات بآليات لتطوير الحرفة».
وتتابع محدثتنا بالقول: «مثلا بالنسبة لقطاع النباتات العطرية والطبية قمنا بدعم الحرفيات والحرفيين من خلال ورشات تدريب لتطوير عملهم فيما يتعلق بوسائل التعليب والتغليف الحديثة والتي تواكب المواصفات العالمية. وقمنا أيضا بمساعدتهم في الحصول على شهادة الإنتاج البيولوجي، وهي شهادة عالمية للمواصفات البيولوجية معترف بها في الأسواق العالمية سواء الأوروبية أو الأمريكية. والهدف من كل ذلك هو جعل هؤلاء الحرفيين والحرفيات يصلون بمنتجاتهم إلى أكبر الأسواق العالمية ما يعود عليهم بعائدات أفضل من دون الاضطرار لزيادة كميات الإنتاج، أي فقط عبر تحسين قيمة العمل وجودته».
وتضيف: «هناك زاوية أخرى هامة من مشروع آسيا، وهي دعم السياحة الايكولوجية والبديلة عبر استخدام طرق جديدة لتسويق المنتجات، وذلك من خلال تنظيم برامج سياحية وترفيهية بصفة مستمرة لعيش تجربة التقطير وصناعة الصابون أو الشموع العطرية وكذلك تناول أشهى الأطباق التونسية التقليدية المعروفة في الأرياف».
من المحلية إلى العالمية
من جهته أوضح محمد أمين عرابي مدير التسويق والاتصال في مشروع «آسيا» لـ«القدس العربي» ان هذا المشروع التعاوني للصادرات الحرفية هو بتمويل من السفارة الأمريكية في تونس وبشراكة مع المنظمة الدولية لصحة الأسرة وبالتعاون مع الديوان الوطني للصناعات التقليدية بتونس، وتأسس في تشرين الثاني/نوفمبر من سنة 2017 الهدف منه دعم سلاسل القيمة في مناطق الشمال الغربي والتي تتجسد في العلامة التجارية (وي كي بام) التي تهتم بالزيوت العطرية والطبية، وخشب الزيتون في صفاقس وسيدي بوزيد ونسيج المرقوم في توجان بولاية قابس، ودعم حرفيي الفخار في منطقة سليانة.
وأضاف: «لدينا مقاربة واحدة في كل مجال من المجالات، مثلا في مجال الزيوت العطرية ندعم هذا المنتوج وندعم من خلاله أيضا المناطق التي تشتهر بها عبر إدماج المجّمعات الفلاحية وتشريكها في النشطات التي نقوم بها. مثلا في مجمّع صفا نظمّنا هذا اليوم السياحي للتعريف بمنتجات هؤلاء الحرفيين وللتعريف كذلك بولاية سليانة عبر تشجيع السياحة البديلة والمستدامة في منطقة العروسة في الولاية. وقد سبق أن قمنا بنفس الشيء في إطار السياحة الايكولوجية في منطقة توجان وطبرقة لتشجيع السياحة البديلة وجلب السياح لزيارة هذه المناطق لتلمس الجمال الطبيعي فيها وعيش تجربة هذه الحرفة. وكل ذلك يمكننا من إعطاء صورة مختلفة عن منطقة الشمال الغربي ويشجع السياح للقدوم إلى هنا. فدعم التراث اللامادي هو وسيلة لتثمين ودعم الحرفة التي وراءه من خلال نوع جديد وخاص من السياحة البديلة».
وتعد الولايات المتحدة الوجهة الرئيسية للصادرات الحرفية التونسية بقيمة 25 مليون دينار تونسي في عام 2022.