افتتح الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، يوم الثلاثاء الماضي المناقشات العامة رفيعة المستوى للدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة بمشاركة 84 زعيم دولة ونحو 48 رئيس حكومة. وهذه الدورة لا تحمل جديدا وتتسم بالبرودة لولا خطاب ترامب الذي أثار الضحك من جهة والاستهجان من جهة أخرى. وتنعقد هذه الدورة في ظل سبع أزمات دولية كبرى رحلت من السنة الماضية، كما قال الأمين العام، بدءا بسوريا ثم اليمن فليبيا ثم فلسطين فجريمة الإبادة الجماعية التي تمارسها حكومة ميانمار على المسلمين الروهينجا، ومسألة المهاجرين والإرهاب الدولي. وقد تراجعت الأزمة مع كوريا الشمالية التي ميزت الدورة السابقة لتحل محلها أزمة الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة مع إيران. وسنحاول في هذا المقال أن نلقي الضوء على الجمعية العامة ودورها ومحاولة تهميشها وكيفية تفعيلها وسنعود في مقال لاحق لمراجعة كلمات الوفود والقضايا المطروحة خاصة قضايا منطقتنا العربية.
دور الجمعية العامة تاريخيا
قد يظن الكثيرون أن الجمعية العامة منبر للخطابة فحسب، يأتي إليها ممثلو الدول لإلقاء كلمات موجهة إلى شعوبهم أكثر مما هي موجهة إلى المجتمع الدولي. قد تبدو الأمور هكذا هذه الأيام بعد أن قامت الولايات المتحدة وبعض حلفائها باختطاف معظم أدوار الجمعية العامة وتحويلها إلى مجلس الأمن، بعد انتهاء الحرب الباردة كما سنبين لاحقا. فقد لعبت الجمعية العامة خلال السنوات الثلاث والسبعين الماضية أدوارا تاريخية مهمة، خاصة في اعتماد مجموعة من الاتفاقيات الدولية والمعاهدات التي غيرت كثيرا من المفاهيم والمسلكيات وصححت أخطاء تاريخية وفتحت مسالك جديد لجعل عالمنا أفضل وأكثر عدلا وأكثر انضباطا بالقانون الدولي.
وسأذكر من بين الاتفاقيات والمعاهدات والإعلانات التي اعتمدتها الجمعية العامة “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الذي إعتمد في العاشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1948 واعتبر بوصلة عالمية ومسطرة دولية تقاس بها مسلكيات الدول في مدى احترام حقوق الأفراد السياسية والمدنية من جهة، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من جهة أخرى. وقد أعيد تفصيل هاتين الرزمتين من الحقوق في معاهدات لاحقة تم الاتفاق عليهما عام 1965، واصبحتا من أهم الوثائق الدولية وهما “العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية” و”العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”. ومن المعاهدات المهمة التي أنجزتها الجمعية العامة، اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي اعتمدت عام (1948) والاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب. وفي عام 1960 أنجزت الجمعية العامة “إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة”. وبموجب هذا الإعلان وضعت الأمم المتحدة خطة لتصفية الاستعمار. أقرت الجمعية العامة أن الدول والشعوب المستعمرة من حقها أن تمارس حق تقرير المصير، ولكن يجب أن يتم إنهاء الاستعمار أولا باستخدام النضال بكافة أشكاله. وقد تسارعت حركة الاستقلال، بحيث وصل عدد الدول المستقلة عام 1964 إلى 124 دولة مستقلة.
وتابعت الجمعية العامة، التي تعتبر برلمانا عالميا تتلاقى فيها جهود جماعية من قبل العديد من الدول والمجموعات الجغرافية وإنجازاتها، خاصة في ميادين حقوق الإنسان والتنمية والتحديات الصحية ومناهضة التمييز والفصل العنصري. ومن المعاهدات التي أنجزتها الجمعية العامة “الاتفاقية الدولية لمحاربة كافة أشكال التمييز ضد المرأة” عام 1979 التي أصبحت من أهم الاتفاقيات الدولية، والتي بموجبها تتم مراجعة مسلكيات الدول في موضوع حقوق المرأة. كما أن الجمعية العامة اعتمدت الاتفاقية الدولية لمناهضة العنصرية والتمييز العنصري (1965) التي لعبت دورا مهما في مناهضة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ومن قبلها في روديسيا التي غيرت اسمها بعد الاستقلال لتصبح زمبابوي. أضف إلى هذه رزمة من الاتفاقيات المتعلقة بالأقليات: مثل الاتفاقية الدولية لحقوق المهاجرين وعائلاتهم، والاتفاقية الدولية لحقوق السكان الأصليين والاتفاقية الدولية لحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة واتفاقية حقوق الطفل (1989). كما أن هناك أكثر من 13 اتفاقية تتعلق بجانب أو بآخر بظاهرة الإرهاب الدولي مثل، سلامة الطيران المدني وتجفيف مصادر تمويل الإرهاب وغيرها.
أهملت أمريكا الجمعية العامة وبدأت تسلب المواضيع المخصصة عادة للجمعية وترحلها إلى مجلس الأمن، كي تستفرد بالقرار
الجمعية العامة والمسألة الفلسطينية
لقد لعبت الجمعية العامة دورا محوريا في إعادة الحياة للقضية الفلسطينية بعد حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 وقيام حركة تضامن عربي قوية غير مسبوقة. فقد أعيد بند فلسطين إلى جدول أعمال الجمعية العامة عام 1974 بعد غياب ربع قرن، وانتخب وزير خارجية الجزائر آنذاك، عبد العزيز بوتفليقة، الذي استقبل ياسر عرفات كرئيس دولة بعد أن منحت منظمة التحرير الفلسطينية مقعد مراقب يجوز له أن يشترك في النقاش عندما تطرح المسألة الفلسطينية. واعتمدت تلك الدورة التاريخية القرار المهم 3236 الذي يفصل حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بما فيها حق تقرير المصير والدولة المستقلة وحق العودة وحق النضال بكافة الطرق المنسجمة مع الميثاق لإنهاء الاحتلال. ولابد أن نتذكر دورة عام 1975 عندما اعتمدت الأمم المتحدة القرار 3379 الذي ينص على أن “الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، الذي صاغة العلامة الفلسطيني الراحل فايز الصايغ، الذي كان يعمل مع البعثة الكويتية، فقام السفير الإسرائيلي آنذاك حاييم هيرتزوك، الذي فقد توازنه ووقف على منصة الجمعية وقطع القرار قصاصات صغيرة ونثره أمام الحاضرين قائلا بعصبية “سنتعامل مع هذا القرار هكذا”. وقد بقي الصهاينة يعملون من أجل إلغائه حتى تم ذلك فعلا عام 1991. وقد أنشأت الجمعية العامة قسما للتعريف بالقضية الفلسطينية في إدارة شؤون الإعلام. كما أنشأت شعبة خاصة في قسم الشؤون السياسية للتعريف بالحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، وقامت تلك الشعبة بتوثيق العديد من الجوانب الحيوية للقضية كالاستيطان والمياه واللاجئين والممتلكات الفلسطينية في القدس وغيرها. وأنشأت الجمعية العامة اللجنة الدولية المعنية بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، واعتمدت الجمعية قرار تخصيص يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام يوما للتضامن مع الشعب الفلسطيني. والجمعية العامة هي التي أحالت مسألة جدار الفصل العنصري إلى محكمة العدل الدولية، التي أصدرت فتواها في 9 يوليو/تموز 2004 باعتبار الجدار غير شرعي ويجب أن يفكك ويجب التعويض على المتضررين من إقامته.
تهميش الجمعية العامة بعد انتهاء الحرب الباردة
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية في الأعوام 1989 و 1990 و1991، وانتهاء 40 سنة من الحرب الباردة، التي سميت مرحلة الثنائية القطبية، تفردت الولايات المتحدة بالقرار داخل الأمم المتحدة، فبدأت مرحلة التفرد تلك بالحرب على العراق وتحرير الكويت، ثم فرضت العقوبات الأشد في التاريخ على العراق ثم على ليبيا، وحولت الأمم المتحدة إلى جهاز يخدم المصالح الأمريكية. وحتى تستطيع أن تنفذ أجندتها الشاملة أهملت الجمعية العامة تماما وبدأت تسلب المواضيع المخصصة عادة للجمعية وترحلها إلى مجلس الأمن، كي تستفرد بالقرار. وكي تفعل هذا أعيد تعريف مصطلح “السلام والأمن” ليكون واسعا جدا. فلم تعد مهمة مجلس الأمن فقط البحث في مسائل النزاع والوساطات ووقف إطلاق النار ونشر قوات حفظ السلام، بل تم توسيع مفهوم السلم والأمن ليشمل مواضيع مثل: جذور الصراع، الفقر، الأطفال في النزاعات المسلحة، تمكين المرأة وإدماجها في عملية التنمية والمفاوضات، الإرهاب، الموارد الطبيعية كالمياه، الاغتصاب والاستعباد الجنسي في زمن النزاعات. حتى مسألة الشباب حولت لمجلس الأمن واعتمد المجلس قرار 2250 (2015). فهل بقي شيء للجمعية العامة لتبحثه بجدية؟
لقد سمعت بنفسي سفير الولايات المتحدة الأسبق، ريتشارد هولبروك، يقول في محاضرة في جامعة كولومبيا “خلال عملي كسفير لبلادي لمدة أربع سنوات لم أخاطب الجمعية العامة إلا مرة واحدة”. إذن ليس غريبا أن يدخل الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، ويثير الضحك عندما ألقى خطابا أقرب إلى الخطابات الانتخابية الموجهة لأنصاره من الحزب نفسه. ولم يجد حرجا في أن يعلن أمام ممثلي دول العالم أنه لا يؤمن بالتعددية ولا بالدبلوماسية متعددة الأطراف بل بالوطنية ومصالح الدولة العليا. وفي الوقت نفسه يهدد الدول التي لن تلتزم بفرض العقوبات على إيران ويطالب بالاستمرار بفرض العقوبات على كوريا الشمالية إلى أن يتم تفكيك برنامجها النووي.
لكن اللوم لا يقع على عاتق الولايات المتحدة وحلفائها فحسب، بل على الدول الأعضاء والمجموعات الإقليمية خاصة مجموعة الـ77 زائدا الصين التي وصل عددها الآن إلى 134 دولة والتي بإمكانها أن تفرض تغييرات جذرية في عملية إصلاح الأمم المتحدة، التي لا بد أن تبدأ من توسيع مجلس الأمن وتفعيل دور الجمعية العامة.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي