«إلى أين يمكن أن يتطور انطلاق أعمال اللجنة الدستورية، وكم هو كبير دورها في مستقبل سوريا السياسي، سوف يتقرر حالياً. من المؤكد أن نظام الأسد يود ألا يرى لها إلا الحد الأدنى من الأثر، في حين نريد نحن رؤية الحد الأعلى لذلك الأثر، وهنا تتوضع بؤرة التوتر بيننا وبين الروس. هم في منطقة بين النقطتين المذكورتين. بدون الروس لم يكن ممكناً التوصل إلى هذه اللجنة الدستورية، ولكن إلى أي حد يحتاجون إلى قرى باتيومكين لدعم الأسد حليفهم الأساسي، وإلى أي حد يدركون أنهم يرثون ملكية هذه «الفاخورة» التي هي مجرد أنقاض في باحة مقبرة – إن استعرنا تعبير كولن باول- فهذا شيءٌ آخر. ونحن نحاول توضيح هذه المسألة لهم، وأن موقفهم سوف يكون جزءاً من أنقاض تلك المقبرة، حتى يرى المجتمع الدولي نوعاً من التحرك باتجاه قائمة المواضيع التي تخصنا، والأجوبة على مواضيعنا وسياساتنا، التي تعرفونها جميعاً».
المتحدث هنا كان دبلوماسيآً كبيراً في لقاء صحافي في الخارجية الأمريكية – هو غالباً المبعوث الخاص جيمس جيفري- يوم الأربعاء الماضي في السادس من نوفمبر.
وقرى بوتيومكين، كناية عن المظاهر البراقة التي عرضها قديماً الماريشال الروسي بوتيومكين على الإمبراطورة كاترينا، التي كانت تخفي الجوهر والمضمون السيئ.
وما يهمّ هنا هو المناخ الذي يثيره كلام ذلك الموظف الكبير، الذي يوحي من دون لبس بأن ما نراه هو غبار اللجنة الدستورية، أكثر مما نرى تربتها الزراعية.
وحدهم السوريون للأسف يتوقفون عندها، ويكادون لا يتزحزحون، فيعتبرها بعضهم خيانةً لكل من وافق عليها، أو شارك فيها، أو دعمها، أو حتى رأى فيها بارقة أمل خافتة؛ ويعتبرها بعض آخر مدخلاً لتبرير تنازلاته أمام النظام، وتسليمه بعجز السوريين عن التغيير، ولاستعجال الوصول إلى دمشق الأسد.
تلك هي الملاحظة الأولى في هذا الموضوع، أما الثانية فتتعلق بمبدأ كتابة مسودة للدستور، أو العملية الدستورية كما تُسمّى. والسؤال الأول حول إمكانية الفصل بين العملية السياسية، أو الانتقال السياسي من جهة، والشروع بصياغة الدستور أو معالمه الأساسية، حيث تُوجّه سهام النقد الأكثر عنفاً من قبل الشارع السوري المعارض، ومعه عناصر نخبوية تحمل الرأي نفسه أو يحملها. يتركّز هذا النقد على كون عمل اللجنة الدستورية تضييعاً للهدف، وتفريطاً بأولوية العملية السياسية، أو التغيير والانتقال من حال الاستبداد والفساد والتفريط إلى نظام قامت الثورة من أجله وفي سبيله.
جوهر الملاحظة الثانية هو ضرورة وقف تماهي العملية السياسية مع تلك الدستورية في مسار واحد، الذي لا يأتي بمواجهة لمتطلبات الحاضر، ولا بملامح المستقبل في الوقت ذاته. ويلاحظ هنا ما فعله وفد النظام، وأكد فيه على سياساته السابقة، إذ تابع الإصرار على مناقشة «مكافحة الإرهاب»، في دمج على طريقته للعملية السياسية كما يرغب بها مع تلك الدستورية. فمبحث الإرهاب يفتح على طرحه من قبل النظام لوظيفته المزعومة في مكافحة هذا الإرهاب، ومن ثم ضرورة استمراره وبقائه، بما يغلق على العملية السياسية، من حيث هي انتقال وتغيير. لذلك كان موقف وفد المعارضة صحيحاً في قبول بحث مسألة الإرهاب وتبنيها، على أن تستقل في مكانها ولجانها على طاولة أخرى ومع وفودٍ أخرى، وتبقى اللجنة الدستورية، وقفاً على البحث في المسائل الدستورية وحدها.
ينبغي ألا تتوقف النخب السورية المعارضة عند اللجنة الدستورية وتتجمّد عندها، هروباً من مهمات أكثر راهنية وضرورة
من جهة أخرى وملاحظة ثالثة، لا يمكن للمسار الدستوري أن يتقدم في العمق، من دون متابعة شعبية أو تعبير الرأي العام عن نفسه، ومشاركته في صناعة التوجهات المتعلقة به وصياغتها. فاللجنة الدستورية يمكنها أن تحسم خيارات استراتيجية في بعض المسائل، يمكن أن تسهم في تعقيد المسار السياسي وزيادة أزمته. ومن أجل ضمان مثل هذه المتابعة والمشاركة، لا بدّ من تحقيق خطوة واسعة باتجاه الأمن ووقف القتال والاعتقال والقمع وما في حكم ذلك من ضغوط. ولا يمكن الموافقة على اعتبار أننا دخلنا في مرحلة «ما بعد الصراع أو النزاع» كما يقولون، لنتمتع برفاهية صياغة مسودة للدستور، ورسم ملامح سوريا المستقبل. فلعلّ مناقشات جنيف الحالية تتوقف عند هذه المسألة، ويتمسّك ممثلو المعارضة والمجتمع المدني، بل ممثلو السوريين كلّهم، بذلك الخيار، ولو بالتداخل مع دوامات العمل التي يحاول النظام فرضها، مع تيار ينطلق من مضامين مسار أستانة.
وملاحظة ثالثة، قد تكون خداعة في ذكر ما لا تراه المعارضة، أو بعضها الأقل تمثيلاً واستقلالية، وهي في أهمية وجود المساهمين الأساسيين في هذا النزاع كلهم، من السوريين أولاً، بمعنى وطني عام، وثانياً بمن فيهم الأكراد كجماعة سورية لها ممثلوها السياسيون، ثالثاً من القوى الإقليمية والدولية. ومن جهة السوريين، مع ما نراه من التفاخر اللافت بسورية المناقشات وقيادتها، التزاماً ظاهرياً بقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، فكما أنهم لا يمكن أن يرضوا بتمثيلهم هذا، لا من طرف المعارضة، ولا المجتمع المدني على الأقل، ولكن أيضاً ينبغي ألا يرضوا عن تمثيل طرف النظام ومؤيديه، والذي يؤكد بشار الأسد أنه لا يمثل الحكومة، لكنها تدعمه. الدفع الأول ضد هذا الطرح المتهافت، ينبغي أن يقوم على التساؤل حول مدى تمثيل ممثلي النظام بالفعل من الناحية الاجتماعية والسياسية والتاريخية. يتأكّد هذا الرأي برؤية العديد من هؤلاء وقد تم اختيار العديدين منهم من المخبرين أو المرتهنين وحسب، مع ضمانات كافية لوقوفهم العصبوي مع تمرير سياسات النظام، مثل تضييع الوقت، أو تعطيل العمل، أو حرف الأنظار عن كلّ ما هو في جدول الأعمال المفترض أممياً. إن عمق تنفيذ توجه الأمم المتحدة نحو توفير الضمانات الأمنية لأعضاء الوفود وعائلاتهم هو الذي يحدد درجة حقيقة هذا التمثيل وفاعليته.
ملاحظة رابعة في مرجعية اللجنة واجتماعاتها، فضامنو أستانة الثلاثة: روسيا وتركيا وإيران، يحاولون بكلّ ما في وسعهم جعل مرجعية الاجتماعات في مؤتمر سوتشي، أو في توجهات أستانة عموماً، بما في ذلك ضمانات وإشراف القوى الثلاث. ولا يتنافى هذا التوجه مع اهتمام الروس بمسار جنيف الدولي، مع تلبيسه شكل المنفّذ لتوجهات أستانة وقراراتها، وتغييب شرعيته الدولية. تتنافس تركيا وروسيا حالياً على تأمين تأييد الأطراف الأخرى، كدول الخليج مثلاً، وكذلك أوروبا والولايات المتحدة، وهنا يوجد تداخل مع الملاحظة السابقة بالطبع. وفي جميع الأحوال، لا بدّ من التعامل مع هذه المسألة بالدقة الكافية، ولأسباب متنوعة لا تتركز في شرعية المرجعية وأمانها، بل أيضاً في إعادة القوى المتدخلة إلى أحجامها الأصلية، وإعادة تمثيل السوريين الفعلي أيضاً إلى حجمه.
ليس سهلاً أبداً تسويق المشاركة في عمل اللجنة الدستورية أو دعمها، لا بين غلاة مؤيدي النظام، وغلاة المعارضة وحدهم، بل أيضاً بين جمهور عريض يتوزع بين مواقع اللجوء والنزوح والحصار والأزمة المعيشية الخانقة، لا في مناطق يمكن أن تغلب عليها صفة المعارضة داخل وخارج سوريا، ولا في مناطق تخضع لنظام فاقد للمصداقية، ولأسباب البقاء في أدناها بعد تدهور حالته إلى الدرك الذي ينعكس في كلام الأسد وأدواته ومؤسساته، إن كان ما زال ممكناً الحديث عنها كمؤسسات.
ورغم الملاحظات جميعها، ينبغي ألا تتوقف النخب السورية المعارضة عند اللجنة الدستورية وتتجمّد عندها، هروباً من مهمات أكثر راهنية وضرورة، مثل إعادة ترابط مجموعات الشعب السوري في توضعاته الحالية المتباعدة أكثر فأكثر، وتنظيم هذا الشعب سياسياً بشكل جديد ينفي القوى القديمة ويتجاوزها من دون جمود، مع بناء التحالفات واللقاءات وعمليات التأسيس الجديد. فلا شيء ليربحه أي شعب، يخسر نفسه شيئاً فشيئاً.
وفي ما يخص اللجنة الدستورية، ربما يكون صحيحاً أن نؤكد على استقلاليتها عن عملية الانتقال السياسي، ولا نسمح بتهميش الأخيرة، مع التمسك بأسبقية تنفيذ البنود الإنسانية «ما فوق التفاوضية» التي ذكرها القرار 2254.. وحين تكون الشرعية الدولية هي المرجع، سيكون مفيداً لنا مبادئ دستورية أو فوق دستورية نتوصل إليها.
ولا بأس باستكشاف إلى أين وصل الآخر، على ألّا نقع في غرامه، أو في فراشه.
كاتب سوري