على هامش مهرجان الجونة: «لا» للتطبيع عبر التكريمات

ما زلت أذكر تلك الليلة في أواخر ديسمبر/كانون الأول من عام 2010 حين التقينا في منزل علي بدرخان في شارع الهرم، وسهرنا إلى وقت متأخر، كنا أربعة أنا وصديق غزاوي هو محمود النجار وفادية مغيث والمخرج علي بدرخان تحدثنا عن الأدب والسينما وعن وضع مصر، فقد كان اللقاء قبل الثورة بثلاثة أسابيع، وتحدثنا عن الهوية الكردية وكيف أغنت الثقافة العربية، العقاد، محمد كرد علي، علي بدرخان وغيرهم، وكيف تعفن الواقع العربي لصالح أنظمة فاسدة استبدادية، لا تبالي بشيء غير الحكم وتوريثه إن أمكن، والدفاع عن المصالح الاستراتيجية لها وعن مكاسبها، في حين يعصف الفساد بالعرب والفقر والانحراف والفراغ، كما عبر عنه أدونيس في قصيدته:

فراغ زمان بلادي فراغ
وتلك المقاهي
وتلك الملاهي
فراغ
وهذا الذي ذل في أرضه
وأنكرها واستكانا
ورصع بالعار تاريخه
ولوث أنهارنا وربانا
فراغ
وذاك الذي ملّ من شعبه
ومن حبه
وغمس باليأس أعماقه
وأحداقه
فراغ
وذاك الذي لا يرى غيره
ولا يجد الخير خيرا إن لم يكن خيره
فراغ.. فراغ
فليس من غرض لهذه المقالة سوى الإشادة بعمل جليل له وهو، الرجل الذي نذر نفسه وفنه ووقته لخدمة القضايا العادلة، ومنها قضية فلسطين والأمة العربية وهذا العمل – وما أكثر أعماله – يتمثل في رفض تكريم بعض الفنانين الغربيين، لما لهم من سوابق في نصرة إسرائيل، أو سوابق تمس السيرة الحميدة، كالاغتصاب وغيره، كما في مهرجان القاهرة السينمائي السابق لتكريم كلود ليلوش، وتم إلغاؤه بعد شجب أهل الفكر والفن له، ومهرجان الجونة الحالي لتكريم جيرارد ديبارديو، مع إصدار بيان وتوقيعه رفقة جماعة طيبة من رجال الفكر والفن والصحافة في مصر، ولعل أشهرهم الفنانة فردوس عبد الحميد، المخرج محمد فاضل، فادية مغيث، أحمد الخميسي ونخبة كبيرة من الموقعين على البيان، كما قرأته على صفحة ديوان العرب للصديق عادل سالم المقيم في كاليفورنيا.

تفكيك العالم العربي

ففي هذه الأيام يخيل إلى الواحد منا أن الزمن كرس الانكسار العربي، والخذلان، واللاجدوى، ولا أدل على ذلك من هذه الهرولة في اتجاه التطبيع، وكأن العرب غنموا غنما كبيرا، مع أن فلسطين وهي قلب العروبة، التي ظل السياسيون يتشدقون بنصرتها والدفاع عنها، وأقاموا الحفلات والمآدب وتليت القصائد العصماء في نصرتها، ومع ذلك لم يفلح العرب حتى في العودة إلى قرارات عام 1967، ودفعت منظمة التحرير دفعا إلى أوسلو فقد زين لها الحكام العرب منافع الذهاب إلى هناك، وقبله إلى مؤتمر مدريد وكانا في الواقع ذبحا للعرب ولفلسطين بالتحديد.
وفي الوقت الذي يصدر هو بيانا يشجب فيه تكريم مثل هذين الفنانين، يكتب عندنا بعض أنصاف المثقفين وبعض «الكويتبة» عن ضرورة التطبيع بل وبعضهم يسافر سرا إلى إسرائيل، مادامت الجوائز ستمر من هناك، ومادامت الشهرة بالكتابة عن التطبيع، ومضار الكبت الجنسي، ولا إنسانية الإسلام، كما يتشدقون ولم يكتب واحد منهم عن لا إنسانية القمع والاستبداد وتزييف وعي الجماهير. هل ندرّس أولادنا منافع العولمة، وثمرات الانبطاح للعراب الأمريكي؟
ونعدد لهم حسنات التطبيع، بدءا من محلات موفمبيك وماكدونالد، والسياحة في خليج العقبة، وبرامج ستار أكاديمي المتوقعة، حيث يتمازج الغناء العربي مع العبري، ونضرب صفحا عن القضية، وننسى المطالب التي ضحت من أجلها أجيال من الفلسطينيين والعرب، وحتى شهداء الإنسانية ممن ناصروا فلسطين وقضيتها؟
كيف نقفز على التاريخ وحقائقه؟ ونحن نرى حقا تلك المقولة المتطرفة التي دعت إلى تفكيك العالم العربي، بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي، عبر الاستثمار في النزاعات الداخلية وتشجيعها، وتدمير العواصم التاريخية للأمة العربية، كبغداد ودمشق وبيروت والقاهرة وصنعاء، وهو في الواقع تدمير للذاكرة وللمرجعية الحضارية والتاريخية، لصالح عواصم جديدة نفطية، لم يكن لها وجود في مطلع القرن العشرين بل في الخمسينيات، في حين أن بغداد عمرها من عمر التاريخ ذاته.
هل ندفن الرأس في الرمال كالنعام ونمسك بالسراب ونستعيض عن عراقة التاريخ وعبق الآمال وفجائع الظلم، المسلط علينا من قبل العراب الأمريكي، لصالح خرافات العالم الافتراضي، وندرّس أولادنا كيف محت الإنترنت الجغرافيا، وقوّت الوشائج الأخوية الوهمية- بين البشر في الغرب والشرق، وكيف تكرس العولمة الأخوة البشرية، عبر بطاقات الإئتمان المصرفية، ورائحة البيتزا والهمبورغر والرقص المجنون في الشوارع، على آخر صيحات الغناء الأمريكي الصاخب، في حين يجري نهب الأرض وتدمير الذاكرة، ونهب المال كما نهب مال العراق وليبيا وغيرهما، والحديث عن آفاق التعاون الأمريكي الإسرائيلي العربي، حيث تحول شواطئ العالم العربي إلى فنادق خمس نجوم يشرب فيه الشباب ويرقصون ويأكلون البيتزا والشاورما ويمارسون المتعة وهذه بركة من بركات التطبيع.
على أنني متفائل بالمستقبل وأرى أن هذه المحنة هي بسبب ما كسبت أيدينا، لقد كانت سياسة التخلي عن فلسطين وقضيتها، مقابل وعود بالتنمية والرفاه بعد معاهدة كامب ديفيد، ثم وادي عربة، تركت فلسطين وحدها تواجه مصيرها، ثم الحرب التي شنتها أمريكا على العواصم العريقة بهدف تدميرها وسرقة كنوزها التاريخية، ونهب أموالها، مع دعم مطلق للديكتاتوريات العربية، وتجويع العرب وإذلالهم وإلصاق يافطة الإرهاب والأصولية بهم، بغرض التدخل في شؤونهم الداخلية، وممارسة العمليات الجراحية، كما سماها كيسنجر تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، فمن هو الإرهابي، أهو الذي يقذف بالمواد المشعة والقنابل الذكية ويحول سماء بغداد إلى جهنم، ويهدم البيوت على رؤوس شعبها المسالم والذكي والحضاري، ويسرق البترول والمال والأرض والتحف الفنية، ويساند الطغاة؟ أم هو الذي يتمسك بأرضه ويدافع عن تاريخه وتراثه؟

التدافع هو سنة الحياة

لقد ارتفعت صيحات في العالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي من لدن مثقفين كبار لهم مسارهم العلمي الرائع والنضالي المشرف والإنساني الكبير ضد التزوير والظلم والنهب، هل نذكر الناس بكتاب روجيه غارودي «أمريكا طليعة الانحطاط» ونضال نعوم شومسكي ضد هذه العولمة والأمركة للأرض، مع تدمير مخزونها الحضاري المتنوع، ونضال إدوارد سعيد ضد الكذب والتزييف، ولكن يبدو أن العصر وهو عصر الصورة، حجب كل ذلك واكتفى بالنشر على نطاق واسع لصورة لعربي ملتح يشكل خطرا على البشر والحضارة الأمريكية الذكية، التي يهددها ملتحون لا يحترمون الغناء والرقص وهم أعداء للسامية مع أنهم هم ساميون أيضا!
أنا متفائل فالأستاذ علي بدرخان وجماعته الموقعة على البيان، برهان على أن القضية لا تموت، وأن بذرة الخير موجودة في هذه الأمة وفي العالم، ولأن التدافع هو سنة الحياة، وأن المنتصر مؤقتا اليوم سوف يغدو في يوم ما مذموما مدحورا وفوق ذلك ما ضاع حق وراءه طالب.

 كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ساجية بوخالفي:

    ما أقبح الانصياع للسياسات الغربية التي تغلغلت حتّى النّخاع الشوكي فأنست بعض العرب الأنفة والرجولة وساروا مع التطبيع الذي يظنون أنّه محلبة للخير…تبّا لهؤلاء وهؤلاء.

  2. يقول عادل سالم:

    تحياتنا للأستاذ إبراهيم مشارة وكل الرافضين للتطبيع مع العدو الصهيوني

إشترك في قائمتنا البريدية