توفي هذا الأسبوع في مدينة نانت الفرنسية، أستاذ علم الاجتماع الجزائري المعروف علي الكنز، عن عمر يناهز 74 سنة، الكنز من مواليد مدينة سكيكدة الجزائرية عام 1946، التي درس فيها كل مراحل تعليمه الأولى، قبل الانتقال إلى مدينة قسنطينة، كالكثير من أبناء الشرق الجزائري، لإتمام تعليمه الجامعي الذي انطلق فيه في دار المعلمين.
في هذه المدرسة بالذات، حصل اللقاء المهم مع أستاذه اللبناني المفكر الماركسي المعروف مهدي عامل (حسن حمدان) الذي سيؤثر فكريا على المدى الطويل على هذا الشاب السكيكدي، ابن العائلة الشعبية المتواضعة – الأب كان عاملا بسيطا في شركة النقل بالسكك الحديد – التي منحت للجزائر رياضيين مشهورين، كان من بينهم علي نفسه، الذي حطم رقما قياسيا وطنيا، في العدو الريفي، عكس الأخوين الأكبر سنا اللذين التحقا بصفوف الثورة في هذه المدينة، التي تميزت بدورها الريادي في الحركة الوطنية وثورة التحرير.
تأثير العلاقة مع مهدي عامل، سيبقى حاضرا لدى علي الكنز، الباحث والأستاذ الجامعي، وهو ينطلق في مشواره المهني كأستاذ فلسفة في ثانوية الأمير عبد القادر بالجزائر العاصمة، نهاية الستينيات، قبل الانتقال صوب قسم الفلسفة في جامعة الجزائر لمدة قصيرة للعمل كمعيد، القسم الذي غادره الكنز بسرعة، من دون أن يقطع صلاته بالفلسفة التي متّن علاقاته بها أكثر، للاستقرار في قسم علم الاجتماع في جامعة الجزائر نفسها، بعد مرور سريع على قسم العلوم السياسية.
اختيار علي الكنز الاستقرار مدرسا بقسم علم الاجتماع لم يكن اعتباطيا، فقد كان من بين الأقسام الجامعية الأكثر حيوية كوسط طلابي، استمر التدريس فيه بلغتين -الفرنسية والعربية – لغاية منتصف الثمانينيات، تاريخ التعريب الكلي له، سياسة لغوية وانفتاحا فكريا لطلبة القسم، سمحت لأستاذ علم الاجتماع علي الكنز بالتدرب بسهولة أكبر على اللغة العربية، التي قرر أن يقضي سنة كاملة لتعلمها في القاهرة عام 1972، زيارة سمحت لهذا الأستاذ الجزائري المفرنس، بالتعرف على الحياة الثقافية والفنية في عاصمة المعز، التي بقي على اتصال بها وبوجوهها الفكرية والثقافية لآخر أيامه.
لم يكتف الأستاذ الشاب علي الكنز بالتدريس، كما كان يفعل الكثير من الذين انتسبوا إلى الجامعة وهي تتوسع وتفتح أبوابها أكثر لأبناء الفئات الشعبية في عز التجربة البومدينية، فقد قرر أن يتوجه نحو البحث السوسيولوجي الذي تحول لديه إلى أولوية قصوى، تأثرا ربما بقناعاته السياسية والفكرية التي تلونت بالفكر السياسي الماوي، الذي كان ينادي بالتواصل مع «الميدان» و»التقرب من الجماهير» قناعة عبّرت عن نفسها، بممارسة سياسية قصيرة وغير منتظمة، قربته من حزب الثورة الاشتراكية – محمد بوضياف.
علي الكنز الباحث الماركسي يعيد قراءة التجربة البومدينية، ويكتشف خباياها الداخلية وصراعاتها
البحث السوسيولوجي هو الذي سيُعرف به الأستاذ الكنز بين الجزائريين وفي العالم، بعد أن أنجز بحوثا غير مسبوقة حول مركب الحجار الصناعي الذي سيناقش جزءا منه كأطروحة دكتوراه دولة بجامعة فرنسية، صدرت على شكل كتاب في فرنسا 1987، تحت عنوان «التجربة الصناعية الجزائرية». قبل هذا كان الكنز قد أصدر كتابا مهما حول الاقتصاد الجزائري، تحت اسم مستعار -الطاهر بن حورية، هو اسم الحي الشعبي الذي عاش سنواته الأولى فيه بمدينة سكيكدة التي بقي متأثرا بلهجتها المعروفة – حويتشة ـ رغم إقامته الطويلة بالعاصمة. تقرب واضح أنجزه هذا الأستاذ الجامعي الماركسي من الفكر السياسي الوطني الجذري ورجاله، الذي لم يكن بعيدا عنه كوسط اجتماعي بمدينته، بمناسبة التجربة التي قام بها مع أستاذ الأنثروبولوجيا بالجامعة الامريكية وزميله الجديد بجامعة الجزائر، الدكتور محفوظ بنون في كتابة «مذكرات عبد السلام بلعيد» وزير الصناعة خلال الفترة البومدينية، ورئيس الحكومة لاحقا -1992- صدرت في جزئين في الجزائر-1991- بعد الانفتاح السياسي الذي عرفه البلد عقب احداث أكتوبر، تجربة فكرية جعلت هذا الباحث الماركسي يعيد قراءة التجربة البومدينية، ويكتشف خباياها الداخلية وصراعاتها، وهو يقترب من أحد وجوهها الرئيسيين، عبد السلام بلعيد، أب التصنيع، كما كان يسمى ورئيس الحكومة والمناضل في صفوف الحركة الوطنية.
زاد التصاق علي الكنز بالبحث السوسيولوجي في هذه الفترة، عندما قرر الالتحاق بمركز الاقتصاد التطبيق للتنمية CREAD مدير بحث، في منتصف الثمانينيات، حيث سينطلق في تجربة بحثية جديدة، ستخرجه من محدودية الحالة الوطنية، للانفتاح اكثر على المنطقة العربية وافريقيا، من خلال تجربة الجمعية العربية لعلم الاجتماع، التي تعرّف اثناءها على الفكر السوسيولوجي العربي بمدارسه ورجاله والكوديسريا- مجلس تنمية البحوث الاجتماعية في افريقيا بدكار – التي وطد علاقته فيها مع المفكر المصري سمير أمين والحياة الجامعية والفكرية بافريقيا، عبرت عن نفسها من خلال الكتاب الجماعي الذي أشرف عليه «الجزائر والحداثة» الصادر عن المؤسسة البحثية الافريقية، وبحوث أخرى مع جامعات ومراكز بحث سويدية.
تجربة إنسانية وفكرية، ستقرب الكنز أكثر من كتابات المفكر الإيطالي انطونيو غرامشي بنزعتها التاريخية والثقافية، التي ساعدته على إعادة قراءة الماركسية التي تغلبت عليها نزعة ارو- مركزية واقتصادوية، اكتشف الكنز محدوديتها مبكرا، بتأثير من التجربة الوطنية الجزائرية في شقيها السياسي والتنموي الذي غاص في اعماقه. فرض العنف، على الكنز مغادرة بلده وهو في أوج عطائه الفكري – صيف 1993 بعد توسع الاغتيالات التي طالت محيطه القريب، كما حصل مع زميله جيلالي اليابس، للتوجه نحو تونس في البداية، قبل الاستقرار في نانت الفرنسية للتدريس في جامعتها، هجرة قسرية أثرت بشكل كبير في الباحث الذي فقد بلده وميدان بحثه.
لم تستهو الحياة الفكرية في هذه المدينة الجامعية، طموحات الباحث السوسيولوجي الدولي، باهتماماته الفكرية المتنوعة والواسعة التي توجهت خلال هذه الفترة صوب مجالات علم اجتماع المعرفة، قاد خلالها بحثا ميدانيا مقارنا واسعا، حول العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية، سمحت له بالبقاء على علاقة بالعالم العربي الذي ارتبط به بشكل عاطفي كبير، بحوث مقارنة عرفته من جهة أخرى بالتجارب العلمية – الاجتماعية في الهند وامريكا اللاتينية، التي كان يطلب من طلبته الانفتاح عليها، بدل البقاء في العلاقة الأحادية، مع اوروبا الغربية وفرنسا. فرضت حالة إغلاق الحدود، دفن علي الكنز في نانت الفرنسية، هو الذي كان يفضل أن يدفن في مقبرة القبية بسكيكدة، بالقرب من قبر أمه، أو في مدينة الجزائر التي احبها وعاش فيها أحلى وأخصب أيامه، بالقرب من طلبته وزملائه، الذين أحبو ا فيه صفات الباحث الصارم والإنسان المتواضع، صاحب الثقافة الموسيقية الواسعة، الذي لم يمنعه ولعه بالجاز الأمريكي، الدندنة بأغنية البار اعمر، ياراس بنادم، في أوقات خلوته مع نفسه وحزنه الذي زاد منسوبه، بعد منفاه الذي لم يختره.
كاتب جزائري
شكرا جزيلا استاذ.
رحم الله الفقيد وألهم ذويه الصبر والسلوان . أخيرا عاد كاتب المقال إلى المجتمع وإلى علم الاجتماع السياسي وترك بذلك أخيرا علم الاجتماع الحزبي الضيق .
شكرا على هذه الإلتفاتة، الحسرة أكبر عندما ننظر إلى ما آلت إليه مدينته سكيكدة اليوم : للأسف حالة يرثى لها !
التقيت بالكنز(إسم على مسمّى)أثناء الملتقى الكبير الذي اقامه الكراسك حول العلوم الاجتماعية في الوطن العربي و كانت هذه أول مرة أرى فيها الاستاذ الذي يا ما سمعت عنه و عن خصوبة فكره. و فعلا شغفت بالاستاذ الكنز وانبهرت بروحه العالية و تواضعه الذي يرتقي إلى تواضع العلماء كما اكتشفت عند الاستاد روح الدعابة و المرح.الله يرحم استاذنا الفاضل و يطيّب ثراه و يجازيه عنّا كل خير
شكرا لوفائك، أخي الفاضل الأستاذ جابي، لك خالص المودة والتقدير.
الدكتور علي الكنز كان بحق مدرسة رحمه الله و شكرًا للدكتور جابي على هذه الالتفاتات الطيبة و تذكيرنا بهذا العالم
رحم الله العالم السوسيولجي
الفذ علي الكنز