في سعيه لبناء نخبة عثمانية جديدة، حاول السلطان عبد الحميد الثاني تبني مشروع تعليمي جديد، يقوم على إنشاء مدارس جديدة، تكون وظيفتها تقديم مناهج أخرى وتكوين نخبة إدارية تستلم زمام أمور الولايات. وعلى هذا الصعيد، مثّل مكتب عنبر، أو المعروف رسمياً باسم «مدرسة دمشق التحضيرية المدنية»، المدرسة الأكثر شهرة ربما في ولاية سوريا، إذ شغل المكتب بيتاً ضخماً بناه تاجر يهودي اسمه يوسف عنبر قبل أن تصادره الدولة بعد إفلاسه. ومكانته هذه، جعلت من مكتب عنبر لاحقاً موضوع دراسات علمية عديدة، فقد عدّت هذه المدرسة مركزاً لصناعة النخب السورية ما بين الحربين العالميتين. إذ أشار فيليب خوري في إحدى دراساته إلى أن قسماً كبيراً من قادة الكتلة الوطنية، التي حكمت البلاد بالتنسيق مع الفرنسيين بين سنة 1928 والاستقلال، كانت من خريجي مكتب عنبر. ووفقاً له، كان المكتب عبارة عن مدرسة لأهل النخبة، عالية الكلفة، هدفت لتوفير التعليم لأولاد النخب المحلية من العثمانيين. كما يشير إلى أن المدرسة بقيت مقراً لأبناء المدن في حين فضّل أبناء الريف الالتحاق بالمدارس العسكرية التي بناها العثمانيون أيضاً.
ولعل ما يفلت النظر في هذه السردية، أن مدعاة خوري وغيره للاهتمام بمكتب عنبر، هو التاريخ السياسي لدمشق وسوريا، والنخب السياسية التي خرجت من هذه المدارس. إذ لم يبدِ خوري وغيره من الباحثين المهتمين بالدراسات السورية اهتماماً كافياً بتاريخ غير النخب أو التاريخ السياسي، وهي ملاحظة كان قد لمّح لها المؤرخ في جامعة شيكاغو مايكل برفنس في كتابه «الثورة السورية الكبرى وتنامي القومية العربية»، فالتاريخ السوري بالنسبة لهم ليس سوى تاريخ نخب وأعيان. لا مكان فيه للعامة ويومياتهم، أو تواريخ أخرى بعيدة عن عالم السياسة.
كان المكتب عبارة عن مدرسة لأهل النخبة، عالية الكلفة، هدفت لتوفير التعليم لأولاد النخب المحلية من العثمانيين.
وعودة إلى مكتب عنبر، فإن المُلاحظ في الدراسات والمقالات المنشورة حول مكتب عنبر هو اهتمام المؤرخين الكبير بالدور السياسي فقط الذي أداه بعض خريجي هذه المدرسة، ربما نستثني من ذلك مؤخراً المؤرخ العراقي فاضل بيات الذي أعدّ كتاباً ضخماً حول المؤسسات التعليمية في المشرق العربي العثماني. فاعتماداً على الوثائق والأرشيف العثماني استطاع بيات أن يذكر لنا معلومات تفصيلية عن المواد التي كانت تدرّس في مدارس العثمانيين، وأسماء الأساتذة والطلاب، كما استطاع أن يكشف لنا عن واقع مغاير للصورة الدرامية حول تدريس الفتيات والمدارس الرشدية في حلب ودير الزور في نهايات القرن التاسع عشر.
وفي حالة مكتب عنبر، تشير سالنامة المعارف في ولاية سوريا، إلى صدور قرار بشراء منزل كبير في وسط مدينة دمشق سنة 1886، وتحويله إلى مدرسة. وأن الدراسة بدأت في مكتب عنبر سنة 1887. وقد شهدت المدرسة توسعاً كبيراً بمرور الزمن حتى بلغ عدد طلابها في سنة 1900 (405) طلاب؛ ما أدى إلى زيادة الكادر الإداري والتعليمي. ومن بين الأمور المهمة التي تذكرها سالنامة سوريا الموادَ التي كانت تدرّس آنذاك مع أساتذتها؛ فمثلاً نجد أن المكتب ضم معلماً للجغرافيا وللغة الفرنسية وللعلوم الدينية والأدب، ومعلماً للخط وللرسم وللغة الفارسية والعثمانية وللحساب. وبقي مكتب عنبر المكان الذي يفد إليه كل الطلاب في مدينة دمشق بعد فترة السلطان عبد الحميد، وحتى نهاية فترة الاتحاد والترقي، ودخول فيصل لمدينة دمشق، إذ يذكر الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته، أنه كان يمر على هذا المكتب كل شاب في دمشق، حتى أننا لا نعثر لاحقاً في الخمسينيات والستينيات على أي كبير في دمشق ولا صاحب اسم أو منزلة، إلا وقد جاز يوماً بـ»مكتب عنبر».
وكما أشرنا في المقدمة فإن المكانة والدور الذي أداه بعض تلامذة هذه المدرسة في الحركة الوطنية، دفعت مؤرخين كثرا إلى الاهتمام بها، بيد أن الإشكالية بقيت في أن الصور التي نقلوها لم تستطع تجاوز أسوار هذا المكتب للتعرف على أوضاع الطلاب وحياتهم اليومية، ومن هم الأساتذة الذين درّسوا فيها بعيد خروج العثمانيين ودخول الفرنسيين. إلا أن الذكريات التي كتبها الراحل ظافر القاسمي (ابن جمال الدين القاسمي وأحد تلامذة هذا المكتب) هي من الاستثناءات التي قدمت لنا وصفاً غنياً وطريفاً حول المدرسة وأهلها. فعوضاً عن التركيز على الجانب السياسي، حاول القاسمي رسم صورة من ذكرياته، كما يقول عن أهم الأعلام والأساتذة الذين درسوا في مرحلة الانتداب، والأجمل من ذلك أننا من خلال ذكرياته نستطيع الوقوف على صورة أكثر قرباً عن سلوكيات وصفات وطبيعة بعض المثقفين والمفكرين الذين درسوا في المدرسة قبل أن يكون لهم شأن كبير في مجال الثقافة والأدب والعلم لاحقاً، كما في حال الفيلسوف السوري جميل صليبا والمعلم السوري جودت هاشمي أو ميشيل عفلق.
ولأن كتاب القاسمي حول مكتب عنبر لم يكن عملاً تاريخياً كما يذكر، بل جزءاً من الذاكرة، حاول في مقدمة كتابه أن يمزج بين الشخصي والتاريخي بعض الشيء من خلال حديثه عن رحلته اليومية إلى المدرسة. ما يلفت النظر في هذه الرحلة وفي المشاهد التي رسمها لنا عن الطلاب وطريق الذهاب إلى المدرسة هو أن المدرسة في فترة الثلاثينيات لم تكن فقط مدرسة للنخب، بل ضمت أبناء أحياء عديدة وبعيدة. وذلك خلافاً للمشهد الذي رسمه خوري والمتمثل في صورة أبناء عائلات نخبوية «فلم يكن في مدينة دمشق إلا مكتب عنبر واحد، يأتيه الطلاب من جميع أرجائها، وبعضهم من أقصى المهاجرين، وبعضهم من الميدان ومن الأكراد، ومعظم هؤلاء لا يعرفون ركوب الترام ولا غيره».
«تراهم في عمائمهم وجببهم ولحاهم أقرب إلى قلوب الطلاب من أفندية وبكوات هذا الزمان، الذين حملوا عناوين العلم.. ولا أدري ماذا حملوا من حقائق العلم».
ينتهي القاسمي من وصف يوميات الرحلة للدراسة، وحديثه عن تناول قطع الهريسة عند نزلة حمام القاضي، وكيف أن تأخره بسبب الالتزام بمهمة حمل العجين إلى الفرن صباحاً والعودة بالخبز، كان يؤدي أحياناً إلى تأخره عن المدرسة وبالتالي تحمّل الوقوف لساعات أمام بوابتها عقاباً له وللمتأخرين. ثم ينتقل إلى الحديث عن المكتب، فيشبهه بسجن؛ من دخله من الطلاب لا يمكن أن يُفرج عنه إلا حين انتهاء الدوام. ويصف كيف أنه عند الظهيرة كانت القلة من الطلاب تأكل في المكتب رغيفاً ثمنه قرش واحد، وصحناً من الحمص ثمنه قرش واحد أيضاً. أما الكثرة فكانت تبقى على الجوع ـ أو تعتمد على القضامة.
كانت أيام الشتاء قاسية وباردة.. وكانت الصفوف تتكون من قاعات أرضها وحيطانها من رخام؛ باردة كالثلاجة، مع ذلك كان نصيب الصفوف من الحطب محدداً. بالتالي، نعثر في هذا الوصف وصور الطلاب الفقراء على ما يغاير الصورة النخبوية التي رُسِمت عن هذه المدرسة وتلامذتها وأهلهم. وخلافاً للتركيز على التلاميذ الذين غدا بعضهم لاحقاً قادة في الحركة الوطنية، يحاول القاسمي أن يعرفنا باسماء بعض الأساتذة الذين درّسوا فيها بعد عام 1920. كان فريق منهم، كما يذكر، من العسكريين المتقاعدين الذين قطع الاحتلال الفرنسي الصلة بينهم وبين الجنود، فصبّوا كل اهتمامهم على تنشئة الأطفال النشأة الصالحة، ورغم خلفيتهم العسكرية كانوا «آية من آيات الله في الرحمة والشفقة والبر بالطلاب»، كالمرحوم مسلم عناية أستاذ الرياضيات الذي كان يطالبهم في الصف بالكف عن النداء بكلمة «استاذ» لأنها، كما يذكر مسلم، مُشتقّة من الفارسية ومعناها «مُعقّل المجانين». كما يذكر القاسمي أن فريقا من أساتذة مكتب عنبر كانوا من المشايخ، الذين لم يعرفوا أساليب التربية الحديثة، بيد أنهم كانوا بالنسبة له وللتلاميذ أرقى طبقة من الأساتذة التي علّمت الدين واللغة: «تراهم في عمائمهم وجببهم ولحاهم أقرب إلى قلوب الطلاب من أفندية وبكوات هذا الزمان، الذين حملوا عناوين العلم.. ولا أدري ماذا حملوا من حقائق العلم» ورغم تعدد الأساتذة، إلا أن درس اللغة والتركيز على التحدث بالفصحى، كان من بين ما جمع بين كل الأساتذة سواء المشايخ منهم أو العسكريين أو أساتذة المواد العلمية، كما يذكر القاسمي. فأفكار القومية الإسلامية والتركيز على الاستقلال، هو ما دفعهم آنذاك للتركيز على اللغة العربية وتعليمها للطلاب، وكان الشيخ عبد القادر المبارك دائم الاستعانة بالقاموس، يصطحبه غالباً في درس القراءة. وفي أحد الأيام، وفقاً للقاسمي، دخل الصف «فطلب إلى أحد الطلاب القراءة، فقرأ. وإذا بالشيخ رحمه الله يتوقف عن الإيضاح والشرح، ويعلن بدون حرج /سامحوني/ فأنا لم أحضر درسي في هذا اليوم بالقاموس»، وهذا خلق العالم الحقيقي كما يقول القاسمي، إذ لم يجد أي حرج في أن يُعلن لطلابه أنه لا يستطيع أن يكون الأستاذ الذي عرفوه. ومن بين الشيوخ الذين درّسوا، نعثر على اسم الشيخ سليم الجندي، الذي اعتمر العمامة في أول نشأته، ثم استغنى عنها وغدا «أفندياً» يلبس الطربوش والبزة الإفرنجية. كان يلقي بالنكات الحادة عن المجتمع، بعلمائه، وساسته، وطلابه، وكان يعيش في حارة الشالة في المهاجرين.
وعن باقي الأساتذة أو الأبطال، وفق تعبيره، نعثر على وصف شيق لشخصية المعلم وصفات وطباع الراحل جودت الهاشمي. فالرجل كما يذكر القاسمي جزائري الأصل؛ قصير القامة، وكثير الهيبة، وقليل الكلام، ونادر الابتسام.. مع هذا كان حبيباً إلى قلوب الطلاب، ولطالما رفض تسليم الطلاب إلى أجهزة الأمن وقام بمنعهم من مغادرتها والبقاء فيها ليلاً. كما نعثر من بين الأسماء على اسم الفيلسوف السوري جميل صليبا الذي جاهد منذ اليوم الأول ليضيف إلى صف الفلسفة نصوصاً من الفلسفة الإسلامية «وكانت سنتنا 1933 هي السنة الأولى التي وُفّق فيها لهذه الإضافة، فقرأنا عليه: المنقذ من الضلال للغزالي، وحي بن يقظان لابن طفيل، ونصوصاً مختارة من ابن خلدون». كما حاول تعليم الطلاب ترجمة نصوص من الفلسفة الإسلامية إلى الفرنسية.
ولا يتوانى القاسمي في سرده لذكريات عنبر من ذكر عشرات الأسماء التي درّست مثل هاشم الفصيح ويحيى الشماع (أستاذ الكيمياء) وعاصم البخاري وعبد الوهاب أبو السعود (مدرس التمثيل والرسم، وكان له فضل في النهضة المسرحية) وغيرهم. كما أنه لم ينس،َ في سياق هذا الحديث، ذكر أسماء المعلمين الفرنسيين الذين قدموا ودرسوا في مكتب عنبر بعد عام 1920. ويؤكد القاسمي على أن الفرنسيين لم يدخلوا للتدريس فيها إلا عام 1924. وخلافاً للصورة التي رسمت المعلمين الفرنسيين بوصفهم أنيقين، ويتحدثون علوماً جديدة، نعثر على صورة أخرى، قد لا تكون بريئة، بيد أنها تبقى مشوّقة ومُدهشة على مستوى الوصف الدقيق لأجساد المعلمين الفرنسيين وشكل هندامهم وطريقة كلامهم، وهو أسلوب بقي يحكم عمل القاسمي حول مكتب عنبر، أسلوب كثيراً ما يذكرنا بكتاب والده وجده (رغم اختلاف الموضوعين/ قاموس الصناعات الشامية والمهن في دمشق)، التي جمعت بين المعلومات والوصف الدقيق والطرافة في طرح الأخبار.
كان أول الفرنسيين الذين وفدوا رجلاً قصير القامة، طويل اللحية، أعرج الساق، اسمه ميشيل، لم تطل مدة إقامته؛ وجاء بعده المعلم (بو)، وكان قصير القامة أيضاً، ثرثاراً، لا يلبس الجوارب حتى في الشتاء، فسمّاه الطلاب (مسيو بلا جرابات).
وفي عام 1927 قدم المعلم تريس، لبس في أيامه الأولى البذلة الكاكي. بدت دروسه تافهة للقاسمي، وساخرة من طقوس التصوّف في المدينة آنذاك. يُستثنى من بين المعلمين الفرنسيين الأستاذ غولميه، الذي كتب لاحقاً مؤلفاً حول تاريخ الاستشراق في فرنسا؛ كان لا يبالي باستعمار، كان فوضوياً، ويتحرق لتعليم الأطفال اللغة الفرنسية، ولذلك فقد أحبه الطلاب لأنهم لم يروا فيه أي صورة من صور الانتداب.
٭ كاتب من سوريا