حدث ما لم يكن متوقعا، وسقط نظام بشار الأسد بطريقة لم يتخيلها أحد، فلم تكن هيئة تحرير الشام تنتظر من هجومها الذي بدأته يوم 27 تشرين الأول 2024، سوى التقدم في ريف حلب الشرقي، وربما الوصول إلى تخوم حلب، وهذا واضح جدا من العنوان الذي أطلقته على عمليتها تلك، وهو «ردع العدوان». لكن تحلل قوات النظام السوري، جيشا وقوات أمنية وميليشيات، فتح الطريق واسعا أمام وصولها إلى دمشق، والسيطرة عليها، بعد 10 أيام فقط من بدء العملية.
وهذا التحلل للجيش السوري، الشبيه تماما بالتحلل الذي حصل للقوات العراقية عام 2003، يعود إلى عوامل عديدة بينها الاستنزاف الطويل، والوضع الاقتصادي، وفقدان الرغبة في القتال؛ أي أنه تحلل ذاتي بالدرجة الأولى، وليس نتيجة هزيمة في المواجهة العسكرية، أو أوامر بالانسحاب، أو خيانات، الأمر الذي يعطل إمكانية إعادة ترتيب الأوضاع عسكريا. وهذا وحده ما يفسر «اختفاء» وليس انسحاب، الوحدات التي كانت ترابط على الحدود الفاصلة بين الجيشين السوري والإسرائيلي في الجولان، مثلا، دون أن يكون هناك أي هجوم عليها، او احتمال الهجوم من الأصل، وهو ما أتاح للقوات الإسرائيلية التمدد داخل المنطقة (العازلة بموجب اتفاقية فك الاشتباك الموقعة عام 1974) والسيطرة على مناطق خارجها، مثل جبل الشيخ الاستراتيجي.
لم يتعلم السوريون من درس العراق الأول وهو أن الجيوش التي يتم «تطويع» عقيدتها لحماية الأنظمة، وليس الأوطان، تسقط مع سقوط النظام نفسه. وسيدفعون ثمنا أكبر إذا لم يتعلموا من درس العراق الثاني وهو الفشل في بناء النظام السياسي، وبناء الدولة، وبناء القوات العسكرية والأمنية.
إن مراجعة الوقائع على الأرض في سوريا – وليس في دمشق وحدها ـ يكشف خرائط متعددة يمكن لها أن تتحول إلى أمر واقع، جغرافيا وسياسيا، ما لم تكن هناك خطة واضحة للملمة هذا التشظي بسرعة، عبر سياسات وممارسات حقيقية، وليس مجرد خطابات إنشائية.
وإذا كانت هيئة تحرير الشام قد نجحت إلى حد كبير في تجربتها في الإدارة في إدلب، عندما شكلت «حكومة الإنقاذ» بين تشرين الثاني 2017، ولحظة سيطرتها على دمشق، فإن النجاح في إدارة سوريا جميعها، مسألة أخرى تماما.
إذا كانت هيئة تحرير الشام قد نجحت إلى حد كبير في تجربتها في الإدارة في إدلب، عندما شكلت «حكومة الإنقاذ» فإن النجاح في إدارة سوريا جميعها، مسألة أخرى تماما
تتوزع سوريا اليوم بين عدة مجموعات وفصائل قائمة بالفعل، مع إمكانية ظهور فصائل أخرى في مناطق محددة. فلدينا قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي، وقد نجحت في التمدد في مناطق واسعة بعيدا عن الجغرافية والديمغرافيا الكردية، وإذا كانت قد خسرت منبج في ريف حلب الشرقي، وانسحبت من دير الزور، وربما ستنسحب من الطبقة أيضا، وبالتالي تخلي مناطق نفوذها تماما غرب الفرات، فإنها ما زالت تسيطر على أجزاء من محافظتي حلب ودير الزور الواقعة شرق الفرات، وليس واضحا ما إذا كانت ستتخلى عنها، او أنها ستتخلى عن الرقة بالسهولة نفسها، وأن تكتفي بمنطقة إدارة ذاتية في محافظة الحسكة وحدها، ويبقى الموقف الأمريكي حاسما هنا، فهو الداعم الأساسي لهذه القوات، وهذا يرتبط بالموقف الأمريكي من الحالة في سوريا عموما.
وما زال الموقف من قسد في حاجة إلى مراجعة، فعلى سبيل المثال لا الحصر فان الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية، الذي لا يزال يصف قوات سوريا الديمقراطية بأنها»ميليشيات PYD الإرهابية» (تصريحات نائب رئيس الائتلاف في 11 كانون الأول 2024) وهو يشير في خطاباته إلى «تحرير الحسكة والقامشلي» نفسها، وليس الرقة فقط!
هناك أيضا جيش سوريا الحرة، في منطقة التنف جنوب شرق سوريا، والذي كان ويزال مدعوما من القوات الأمريكية التي أقامت قاعدة لها هناك عام 2014 في سياق الحرب على داعش؛ فهذه القوات جميعها تقدمت
إلى تدمر، ولا أحد يعرف حتى اللحظة المناطق التي تسيطر عليها في البادية الشامية، ولا طبيعة علاقتها مع هيئة تحرير الشام، وهل ستقبل بالتطورات التي تحدث في دمشق. ومرة أخرى فإن موقف الولايات المتحدة حاسم هنا!
شمالا يتحرك الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً، والذي أطلق هو الآخر عملية «فجر الحرية» في 30 تشرين الثاني 2024 للسيطرة على مناطق شمال حلب وشرقها، بعد أن أيقن أن الطرق بات مفتوحا بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على حلب، من دون التنسيق معها بالضرورة، وهو حاول الوصول إلى دير الزور أيضا، قبل أن تسبقه هيئة تحرير الشام للسيطرة عليها. ولا يمكن التوهم بأن الدعم التركي للطرفين، لا يجعل لكل منهما أجندته الخاصة به.
ولدينا في الجنوب، وفي محافظة درعا تحديدا، ما سمي بـ «غرفة عمليات الجنوب» التي أعلنت بشكل ارتجالي قبيل السيطرة على دمشق، وهي التي تقدمت في ريف دمشق الجنوبي، واستطاعت الدخول إلى دمشق نفسها قبل وصول قوات هيئة تحرير الشام اليها، وتضم بالأساس المسلحين الذين انخرطوا في مصالحة مع النظام، برعاية روسية، في تموز 2018، قبل أن ينقلب النظام السوري عليهم، وصولا إلى اتفاق المصالحة الثاني عام 2021.
في الوقت نفسه، هناك إمكانية لتشكل فصائل مسلحة في كل من مناطق الساحل ذات الأغلبية العلوية، والسويداء ذات الغالبية الدرزية، والسلمية ذات الغالبية الإسماعيلية، كل ذلك وارد الحدوث إذا لم تتمكن دمشق من صياغة منظومة حكم يكون فيها لهذه الجماعات تمثيل سياسي حقيقي، وليس تمثيلا شكليا.
يحسب للشعب السوري أنه قد أسقط نظامه الديكتاتوري بنفسه، وبتضحيات جسيمة، وهذا يفرض عليهم أن يتعلموا من درس فشل المعارضة العراقية، وأن لا يقعوا في الخطايا التي حكمت بناء الدولة العراقية. فلا يمكن لهيئة تحرير الشام أن تحتكر حكم سوريا، وهي لا تملك القوة الذاتية أصلا لكي تفرض ذلك حتى لو أرادت. فالدول لا تبنى بمنطق القوة، ولا بمنطق الغلبة، بل تبنى فقط بالتوافق بين أبنائها، وشعورهم بأنهم مواطنون لديهم الحقوق نفسها. وعليهم أن يتعلموا أنه في الدول ذات المجتمعات التعددية أثنيا ودينيا ومذهبيا، مثل سوريا، لا يمكن لأي جهة أن تحتكر السلطة، وأن تفرض هوية أحادية (أو أيديولوجية) عليها؛ فسوريا لا يمكن أن تحكم إلا عندما يشعر الجميع أنهم شركاء حقيقيون في السلطة، وليسوا مجرد ديكور يستخدم لتسويق شراكة زائفة. وأن القوة العسكرية والأمنية، وتسييس القضاء، ومصادرة الحريات، وصناعة جمهورية خوف، والاعتماد على تمثيل مزيف لمكونات المجتمع السوري في البرلمان وفي السلطة التنفيذية، وصناعة جمهور زبائني بالمال العام، وتصدير إعلام غير مهني مهمته تلميع صورة الحاكم وتخوين المعارضين، كل هذا وهم لا يمكنه أن يخلق استقرارا، أو أمنا، أو تنمية، أو ازدهارا. فالدول لا يمكن لها أن تبنى، أو أن تستقر، إلا إذا حظيت باعتراف مواطنيها جميعا بسلطتهم عليها.
كاتب عراقي