عندما انبثق الوهم الجميل: شعراء يستذكرون حالة القصيدة الأولى

لا يمكن لأي شاعرٍ كان أن ينسى قصيدته الأولى، وحبه الأول ووهمه الجميل الأول. وفي تاريخ شعرنا الحديث، يمكن أن نجد عند بعض شعرائنا استذكارا لروح هذه القصيدة ووهجها الذي مضى إلى الأبد، بل يمكن أن نرصد داخل مختبرها الجديد كسؤال ووعي قلق، حالة من عمل الكتابة التي تكشف عن تَجَسْدُناتها بهذا المعنى أو ذاك، وعن ماديتها المعلن عنها بوصفها سيرورة يتداخل فيها الوعي باللاوعي، والخطي بالمسموع، والماهية بالجسد: حالة القصيدة الأولى.

هزة داخلية

قل أن نعثر في حديث الشعراء عنها بما يقتضيه من تفصيل وإيحاء بقيمتها في مشروع الكتابة وبعدها الوجودي، إلا ما يَرِد عابرا كأن ليس لها تلك القيمة المفترضة، وهي التي تقع في منطقة ما بين المخيلة والذاكرة، واللحظة الفارقة في عمر الشعر التي لا تأتي ـ مع ذلك- غُفْلا من أوهام الذات، ومن سياق الثقافة والبيئة والمجتمع وردود فعله الأخلاقي والفكري، بما يعنيه الأمر في نهاية المطاف من ولادة صعبة لشاعر(ة) عابر(ة) في شارع الحياة، ومن مشروع قصيدة قد يتواصل أو ينقطع.
يسرد الشاعر العراقي علي جعفر العلاق (1945) مثل هذه اللحظة التي عاشها، لكن – قبل هذا وذاك- لا ينسى تأثير البيئة بمصادرها الطبيعية على الطفل الذي كانه، تأثيراً مباشراً هيأه لحلم الشعر والتعرف إليه حدسيا قبل أي قانون؛ فأن يولد على مقربة من نهر دجلة، وفي قرية مائية تتحاور فيها المتناقضات إلى أقصى حد، وأن يسمع إلى غناء الأمهات ذي الشجن العريق، والفلاحين في مواسم الحصاد، والمغنين الشعبيين وهم ينشدون الشعر بمرآه، فليس ثمة ما يمنع الحلم من ميلاد شاعر.
وقد اكتمل هذا الحلم وأخذ شكل جسد عنده، عندما استمع في ساحة المدرسة إلى قصيدة لأحد المعلمين بها: «انتابني شعور غريب، كيف تسنى لهذا الرجل، وهو من لحم ودم مثلنا، أن يكتب كلاما كهذا؟ أيكون الشعر كلام إنسان عادي يشبه الآخرين؟ آنذاك فقط أحسستُ بحلم صغير يراودني: أن أكون شاعرا». ولا يتحقق الحلم إلا بعد أن يهز الجسد ويترك مشاعره وجوارحه نَهْبا للحظات كثيفة في الوجود؛ فكأنما الحلم برزخ من عالم إلى آخر أرحب وأشد وطأة وأنفذ قاعا. يقول عن تلك اللحظة التي التقى فيها بالشعر: «فقد هيمنت عليّ فجأة دهشة غامرة اقتلعتني من بين الأجساد المتراصة، وكأن هواء كونيا أذابني في ثناياه ونثرني بين غباره وطيوره وأحجار طرقاته، قبل تلك اللحظة ما كنت أصدق أن في الإمكان أن أرى بعيني هاتين شاعرا من لحم ودم، يتمشى خارج مخيلتي».

بخصوص القصيدة الأولى، يستعيد العلاق محكي الحالة الشعرية وما تركته في جسده من ارتجاف وانتباه ومن «هزة داخلية»؛ إذ يقول بلغته الموحية: «في فترة كهذه نحس بأن أجسادنا تقتادنا إلى جنونها الخاص، ذلك الجنون الحسي العارم، الذي لا لؤم فيه.

بخصوص القصيدة الأولى، يستعيد العلاق محكي الحالة الشعرية وما تركته في جسده من ارتجاف وانتباه ومن «هزة داخلية»؛ إذ يقول بلغته الموحية: «في فترة كهذه نحس بأن أجسادنا تقتادنا إلى جنونها الخاص، ذلك الجنون الحسي العارم، الذي لا لؤم فيه. وهكذا ترتطم حواسنا ببعضها بعضا، وتستيقظ قطعاننا مغتلمة هائجة، ويتعإلى نداء المراعي». يتذكر عنوان قصيدته: (إلى صديقة مسافرة) وخط الرقعة الذي كُتبت به، وسنة نشر القصيدة ومكانه، وكيف أن ذلك شكّل «حدثا شعريا هائلا» لم يستطع نسيانه، واهماً أن «بغداد كلها تتدافع من حولي لترى معي قصيدتي الأولى». ومن هذه اللحظة المفارِقة بدأ مشروع وعد القصيدة باستمرار في عقل الشاعر، وتتأكد صفة المختبر؛ إذ يقول: «وكأي شاب يرى ـ لأول مرة ـ ثمرة صراعه مع لغته وأخيلته وعواطفه، كنت مرتبكا حد الفرح. ومع ذلك ـ وفي الوقت ذاته تماما ـ كنت أحس بالرهبة أيضا: لأن سُـؤالا جارحا كان يُكدر عليّ فرحتي تلك: ماذا سأكتب بعد قصيدتي الأولى؟».

الأمر الخطير

تستذكر فدوى طوقان (1917- 2003) في سيرتها الذاتية «رحلة جبلية رحلة صعبة» أول قصيدة نشرتها مُتأثرة بقصيدة رثاء ابن الرومي في وزنها ورويها، بعنوان (أشواق إلى إبراهيم). وهي لا تصف الفرح وشعورها بصعق المفاجأة التي انتابتها داخليا وحسب، أو طبيعة التعبير عن مشاعر الألم والحزن الذي يكسو شعرها منذ محاولاتها الأولى، وإنما كان يهمها موقف المجتمع الذكوري مما أقدمت عليه من نشر هذه المشاعر على الملأ، لاسيما من أفراد عائلتها، الذين كانوا من مُحبي الشعر وذوي معرفة بأصوله. فإذا استثنينا إبراهيم أخاها الذي كانت له يدٌ طولى في صقل تجربتها الشعرية، تذكر فدوى موقف أخويها أحمد الذي آمن بموهبتها، ويوسف الذي حمل القصيدة إلى الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) ليستطلع رأيه فيها، فيما كانت تترقب بخوف موقف أبيها من «هذا الأمر الخطير»: «بقيتُ تحت الكابوس إلى ما بعد الظهيرة، وحين دخل أبي الدار ركضتُ واختبأْتُ في غرفتنا ـ غرفة البنات – وقبعتُ ألهث في انتظار سقوط السقف على رأسي. لكن ولدهشتي، لم يسقط السقف، فأبي لم يعلق بأي كلمة.. وتنفسْتُ بارتياح عميق.» (رحلة جبلية رحلة صعبة)
كانت المشاغل المنزلية التي تقضيها باعتبارها أنثى، لا تنسيها ـ رغم كثرتها- الشغف بالشعر في بداياته الأولى؛ إذ شرعت تقرؤه وتحفظه عن ظهر قلب، بل تتغنى به وتعزفه بمصاحبة العود: «أشرع في العزف والغناء بصوت خفيض، حتى إذا برز رأس أحدهم بالطربوش الأحمر نهضتُ مسرعة وخبأت العود في خزانة ملابسنا الكبيرة».
ما تتذكره فدوى طوقان إذن، يتعدى أمر الشعر وباكورته نتاجه الأول إلى مسألة خطورة الشعر كتعبير خاص وطبيعي لدى الأنثى نفسيا وذاتيا في مجتمع الذكورة، من أجل مقاومته وتحرير حلمها منه؛ ولهذا، فقد أكدت على قيمة حضور أخيها الشاعر إبراهيم، فهو وحده الذي كان يراها ويُحس بكينونتها وشرط وجودها.

رعشة النار اللافحة

يستعيد الشاعر المصري محمد عفيفي مطر (1935- 2010) في سياق طفولة الشعر وابتعاث مشاعره الأولى، زمن قصيدته «النثرية» الأولى وهي تُنْشر نشرا محترما بين أعمال الكبار المشاهير على صفحات المجلة، ويسرد ما يسميه حكاية «ابتلاء» الشعر مع مجتمع القرية، وموقفه الغريب والعدائي الكاره منه؛ فبدلا من أن يكون «موضع فرح وزهو واعتزاز» فوجئ بضراوة الموقف بين الصغار والكبار، لاسيما من الأُميين الذين أخذوا يسخرون عبر ملاحقات أسئلتهم الاستنكارية المستفزة من القصيدة «الأعجوبة» التي لم يفهموا منها شيئا، بل تحول الأمر إلى ترهيب وعقاب جسدي عليه من أبيه، الذي تأثر بأقوال العامة ومحاذيرهم.
يسرد الشاعر شكل تأثره وردة فعله الغاضبة مما لحق من أذى الأهل والعامة، ولولا انتصاحه من شيخ جليل لكان نفذ قراره بالفرار من المدرسة والقرية: «يا بني.. أنت قارئ مثقف وكاتب فنان ابتلي بمشقة الظروف.. فأين صبر الرجال وعزيمة الموهوبين وإصرارهم؟! عد إلى بيتك ومدرستك، وإنه ليل ينقضي تعقبه الشمس، والفرج قريب فلا تيأس». وبسبب هوسه بالشعر، فقد كان لا يني يبحث عن مصادره ويقرؤه ويحفظه. وكان يرى في كل ذلك «مسألة غير مفهومة ولا علاقة لها بأي طموح عندي». وفي مقطع دال من سيرته الذاتية، يتوقف عند تلك اللحظة التي أتت عليه وهو يكتب قصيدته، أو بالأحرى كان يتهيأ لطقس كتابتها وقد دخل حجرة الدراسة قبل زملائه بوقت طويل، واصفا مدار الحالة النفسية بكل ما تنطوي عليه من بهجة وزهو وخوف وارتعاش محموم واستغراق كُلي: «أخذتني لحظة إشراق وبهجة لم أعهدها، وانتفض في جسدي وقْدُ إحساس مفاجئ بوحدة الوجود وذوبان الكل في واحد إيقاعي جليل، ووقفت بسحر مباغت وفرح فياض بما أتلقاه من كلام تنتظمه ضربات القلب وإيقاعات الشهيق والزفير، وانتفاض جسدي برعشة النار اللافحة، وأخذت أكتب ما أتلقاه بقطعة الطباشير على السبورة، ولا أكاد أرى». وعندما قرأ أستاذه ما كتبه، اعترف له بالموهبة، ونصحه أن يكمل دراسته الجامعية وألا يضيع نفسه في مهنة التدريس «الخاملة».
لقد أدخلت الحالة الشعرية كيان الشاعر منذ ذلك اليوم في زمن جديد، وأشعرته بقدرته على افتراع الكلام، وبالتالي حررَتْه من العادي المبتذل إلى معانقة المطلق: «ومن يومها وأنا أركض ركض الوحش في أروقة الكلام، تتقطر النار من هيولي الروح، وتتفصد أعضائي بالموسيقى ونشوة احتدام القصيدة». هذا الركض هو ما نتعقب آثاره ومناخاته ونتسمع أصواته في شعره، لأنه أَوْدع القصيدة كُل ما هو طازج وبدئي لا ينتهي، فيما هو يتغذى بالتراب الأول وينفتح على عوالم الريف المُتشبعة بمعاني الدهشة والسحر والأسطورة.

إذا استطاع الأنا السيرذاتي التعبير عن بعض بوارقها وخباياها ومفاجآتها، وآثارها عليه في علاقتها بنفسه وبالعالم، فإنما في جانب آخر يعترف بصعوبة الإمساك باللحظة، وبزمنها وتجليها المباغت الذي ينقل الذات من الحضور إلى الغياب أو العكس، ولا سيما إذا كان عهد الشاعر بالكتابة حديثا وكان لسان الحالة: أكون أو ألا أكون.

فرح بطعم الشتيمة

عندما جاء الشاعر السوري ممدوح عدوان (1941- 2004) في عام 1962 إلى دمشق كان وعيه الشعري جاريا على السنن القديم، وكانت مصادره وقراءاته لا تخرج عن التراث وعن أتباعه النيوكلاسيكيين (أحمد شوقي، بدوي الجبل) فأتت محاولاته الأولى تقليدية في هجاء بعض رجال الدين وبعض المظاهر الاجتماعية، إلا أن لقاءه بالشاعر وزميل الدراسة الشاعر علي كنعان، ساعده على الاندماج في الوسط الشعري الجديد، والتحرر من سلطة النموذج. لهذا، يستذكر ـ بتأثر- قصيدته الأولى التي نشرتها له مجلة«الآداب» البيروتية في يناير/كانون الثاني 1964، وكانت أول قصيدة ينشرها على نمط الشعر الحر وهو ما يزال بعدُ طالبا في جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية؛ فالنشر في مثل هذه المجلة المرموقة كان يُحسب له ألف حساب، في وسط ثقافي متلهف لكل جديد. كانت القصيدة المنشورة مهداة إلى رفيقه علي كنعان تحت عنوان (سياط الغربة) وهي تحكي عن معاناة شابين فقيرين قدما من الريف إلى دمشق للدراسة في الجامعة، فكانت الغربة ذات السياط هي «قلب المدينة» التي لا تحتمل «أبناء الأزقة» بل تبصق عليهم «عاهرةُ» المدينة نفسها: يا رفيقي/ كيف لا تصحبنا تلك الحسان/ كيف لا يعرضْنَ دعوَهْ/ أترانا لم نرقَ في عينِ حلوَهْ/ أم تراه راعَها منا قميصٌ يتمزقْ/ وحذاءٌ يتشقق. يقول ممدوح: «غافلتُ صديقي وأرسلتها للآداب لأول مرة وكانت مهداة إليه، فوجئت بالشهر التالي أنها منشورة وكانت فرحتي كبيرة، وفوجئ علي أنني أهديتها إليه وأنها منشورة في الآداب، كما فوجئ زملاؤنا في الجامعة، لكن بعضهم همس “سهيل إدريس نشرها لأنها مهداة إلى علي كنعان» كابرت وناقشت، لكنني بيني وبين نفسي، وبعد أن قال لي علي كنعان: إن القصيدة تحتاج إلى إعادة نظر، قدرتُ أن هذا قد يكون صحيحا، وانتظرت العدد المقبل لأقرأ النقد».
كان ناقد العدد الموالي (فبراير/شباط 1964) هو السوري محيي الدين صبحي الذي وجد أن القصيدة «ليست أكثر من انطباعات فجة نظمت بشعر فج ولغة فجة» وأن «فيها أخطاء لغوية» و«أن موهبة هذا الشاعر ظاهرة، غير أنه لا يتقن فن الشعر». كان النقد موضوعيا لكن لم يخلُ من صرامة ناقد أكاديمي، وهو ما تلقاه ممدوح بشعور متذمر: «انهال على القصيدة بشتم مقذع ومسح بها الأرض، لكنني رغم ذلك سُررت لأنه على الرغم من شتائمه، قال إنها قصيدة تمس شغاف القلب. بعد فترة أردت التأكد من أن القصيدة نُشرتْ لأنها تستحق وليس لأنها مهداة إلى علي كنعان، فأرسلت قصيدة بعنوان (دير ماما) اسم قريتنا وانتظرت عددا وثانيا وثالثا ولم تنشر. إذن، هذه هي الحقيقة».
لكن ذلك لم يوهن عزيمته، إلى أن نشر قصيدة بعنوان «السيف والصدأ» عن فلسطين، وثالثة بعنوان «النبي» حزنا على رحيل بدر شاكر السياب، «وفي العام ذاته ـ يتابع- سافرت قرابة عشرين يوما إلى أندونيسيا وعدت من هناك بقصيدة، بيضتها في الطائرة، وحين وقفنا في استراحة قصيرة في مطار بيروت. ألقيتها في صندوق البريد ونشرت في العدد المقبل كان عام 1965، وكانت القصيدة الأولى التي أحس أنها نشرت دون شفاعة علي كنعان ولا شفاعة فلسطين ولا شفاعة السياب. كانت قصائد ممدوح عدوان على صفحات مجلة «الآداب» تمريناً حقيقياً للتعلم والإصرار من إجل إثبات الذات، وقد شكل صدور ديوانه «الظل الأخضر» (1967) الذي يُعد من بواكير الشعر الحديث، ميلاد شاعر حقيقي ومختلف.
هكذا، من حالة إلى أخرى أكثر طرافة، نكون بصدد لحظة كثيفة داخل الوجود والكينونة، تخلقها الكتابة وتقحم جسد الشاعر فيها، إلا أنها تبقى محتجبة ومتكتمة على أسرارها. وإذا استطاع الأنا السيرذاتي التعبير عن بعض بوارقها وخباياها ومفاجآتها، وآثارها عليه في علاقتها بنفسه وبالعالم، فإنما في جانب آخر يعترف بصعوبة الإمساك باللحظة، وبزمنها وتجليها المباغت الذي ينقل الذات من الحضور إلى الغياب أو العكس، ولا سيما إذا كان عهد الشاعر بالكتابة حديثا وكان لسان الحالة: أكون أو ألا أكون.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية