سن مجلس النواب العراقي، أو هو في طريقه لسن قوانين يعارضها بشدة الرأي العام العراقي بمختلف دوائره الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية/ العلمية، نساءً ورجالا وشبابا.. إلا أن المجلس يصر على تجاهل موقف الرأي العام، ولا يحفل به بتاتا، مناقضا بذلك أهم بند من بنود النظام الديمقراطي (ودستور العراق في آن واحد)، الذي يقر باحترام رأي المجتمع، ويكرس السلطة للشعب، وأن تسن القوانين في صالحه، وليس لخدمة طائفة أو شريحة أو حزب أو لميول مذهبية، وأن تأخذ القوانين الأهداف الاستراتيجية للبلد، وأن تتوافر أسس مقنعة لتبنيها.
يؤكد السلوك الانطباع السائد بأن النخب، التي تمسك مفاصل الحكم في العراق تتعامل مع المبادئ الديمقراطية وآلياتها المتعارف عليها بصورة شكلية ومنافقة، وأنها تتخذها وسيلة لتحقيق غاياتها، التي كثيرا ما تتناقض مع القضايا الحيوية، بل الوجودية للعراق ووحدته الاجتماعية وسيادته وديمومة بقائه. ومن الواضح أن المحتوى الحقيقي للديمقراطية في العراق لا يتوافق مع شكلها المعلن، ولا يلعب الرأي العام دور البنية الفوقية، التي تحل محل العقيدة وتضمن استقرار مثل هذا النظام.
تحت ستار الديمقراطية يجري إخفاء عنف سلطة النخب ومن يدور في بيئتها الفاقدة للمسؤولية، فتفلت من العقاب المشروع، وتصادر ثروات الشعب وتتلاعب بوعي الناخبين
وتتمثل وظائف مؤسسات الديمقراطية المشوهة في ضمان هيمنة، النخب الحاكمة وضمان امتيازاتها، وإخفاء هيمنتها، وتعزيز مصالحها.. هذه الديمقراطية، تجسدت بالفعل في حالتها العراقية. ويمكن الحكم على ذلك من خلال العديد من الحقائق التي تجلت في الفضائح المالية، ومواجهة الاحتجاجات المشروعة بقوة سلاح ميليشيات غير قانونية، والخطف والاغتيالات السياسية، وانتهاك حقوق المواطن، وتجاهل مواقف ومطالب الرأي العام، وغيرها. مع ذلك، فإن الديمقراطية باعتبارها القوة الفعلية للشعب ولكل شخص على حدة، والقائمة على أساس مبادئ التنظيم الذاتي والمسؤولية والوصول المتساوي غير المحدود إلى المعلومات والمعرفة، هي نظام الحكم الوحيد القادر على تلبية مصالح الأغلبية في البلاد. السكان بأغلبيتهم، وليس فئة ضئيلة منهم. يعتبر النظام الذي يتجسد فيه حق الناس في المشاركة في الشؤون العامة بشكل أساسي ديمقراطيا. ولكن يجري تنفيذ تلك المبادئ والقيم التي تتميز بها الديمقراطية بصورة غامضة، وأحيانا تفضي إلى نتائج تتعارض بشكل مباشر مع جوهرها. وهناك تناقضات كبيرة بين المضمون والتنفيذ الفعلي لمبادئ المساواة والديمقراطية وسلطة الأغلبية على الأقلية، والحرية، والشفافية، والانفتاح. ووراء الشكل الخارجي الجذاب للديمقراطية باعتبارها «سلطة الشعب»، يختفي في الواقع محتواها الداخلي المحزن والمخيف أحياناً. وهذا ما يؤكد ضرورة إجراء تحليل عميق لأسباب هذه التناقضات، وإعادة التفكير في معنى مبادئ وقيم الديمقراطية، لتطوير فهم أكثر ملاءمة لواقع الحياة.
معروف أن للنظام الديمقراطي تاريخ طويل. وقد ورد ذكره في التراث الفكري للعصور القديمة. ولأول مرة، تجسدت الديمقراطية بدرجة أو بأخرى في أثينا القديمة. وقدم المفكرون القدماء مثل أفلاطون وهيرودوت وبروتاغوراس وديموقريطس وأرسطو، مساهمة كبيرة في تطوير نظرية الديمقراطية. كان المؤيدون الرئيسيون للديمقراطية هم السفسطائيون، الذين عرّفوا الديمقراطية بأنها النظام السياسي الصحيح الوحيد للمجتمع، لقد اعتقدوا أن رأي الأغلبية أهم من رأي الأقلية، وبالتالي يجب أن تكون السلطة ملكا للشعب. ومع ذلك، لم يكن كل المفكرين القدماء يرون أن الأغلبية يجب أن تحكم. كتب أفلاطون في كتابه «الدولة» أن الديمقراطية هي قوة الفقراء، وأن الديمقراطية المفرطة تؤدي حتماً إلى الطغيان. وفي رأيه، ينبغي للجميع ألا يحكموا، ولكن فقط الأكثر حكمة، أي الفلاسفة. وخلال عصر التنوير الأوروبي ساهم باحثون مشهورون في ذلك الوقت مساهمة كبيرة في تطوير فهم الديمقراطية: سبينوزا وجون لوك وتشارلز لويس مونتسكيو وجان جاك روسو وغيرهم. وكانت الفكرة الرئيسية لهؤلاء المفكرين هي أن جميع الناس بطبيعتهم أحرار ومتساوون ومستقلون، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يخضع للسلطة السياسية أشخاصا آخرين دون موافقتهم. والنظام السياسي القادر على ضمان هذه المبادئ هو النظام، الذي تتمتع فيه الأغلبية بالسلطة. وقد نشأت هذه النظريات وتطورت مع انهيار الملكية الأرستقراطية وظهور المجتمع البورجوازي، وكان الهدف العملي هو تشكيل رأي عام بين السكان بصدد التغيير لصالح الحرية والمساواة. وتحت شعارات الإصلاحات الديمقراطية الليبرالية، جرى العديد من الثورات البورجوازية، التي أدت في هذه البلدان ليس فقط إلى تغيرات ذات طبيعة سياسية واجتماعية واقتصادية، ولكن أيضا إلى فقدان سيادة الدولة ومواقعها على الساحة الدولية، وفي بعض الحالات، إلى انتهاك السلامة الإقليمية. ويرى محمود عباس العقاد إن الشريعة الإسلاميَّة كانت أولى الشرائع السبَّاقة إلى تقرير الديمقراطيَّة الإنسانيَّة؛ وهي الديمقراطيَّة التي يكتسبها الإنسان باعتبارها حقا له يُخَوِّله أن يكون فاعلا في اختيار حاكميه، وليست مجرَّد حيلة من حيل الحُكم لاتقاء شر أو حسم فتنة.
يقوم العالم الحديث على نظام اجتماعي واقتصادي رأسمالي.. وتتمثل خصوصية هذا النظام في أن الملكية الخاصة تخلق ضروبا من عدم المساواة بين المواطنين، ونتيجة لذلك، تتحقق هيمنة المالكين الكبار، المحتكرين عادة، الذين يسارعون إلى اكتساب ميزة مالية، وتتعزز هذه الميزة وتتضاعف من خلال الاستحواذ على القيمة المضافة، التي يخلقها العمل المأجور، ومن خلال آلية أسعار الفائدة والمضاربة والتلاعب بأسواق الأسهم والعملات، بالإضافة إلى ذلك، فإن الهيكل الاجتماعي والاقتصادي الرأسمالي مدعوم بهياكل فوقية سياسية وقانونية وأيديولوجية. في الوقت نفسه، فإن الديمقراطية البورجوازية، التي تظهر بوصفها تعبيرا سياسيا عن نظام اقتصادي للرأسمالية، تُعد بنية فوقية تعزز كل شيء آخر في داخلها. في ظل ظروف رأسمالية السوق، وتحت قشرة الديمقراطية، التي تمثل سلطة الشعب، تختفي سلطة المال، أو بشكل أكثر دقة، سلطة أولئك الذين يملكون المال بوفرة، لكن في مثل هذه الحالة، عندما يعتمد مستوى الفرص على مقدار المال، يصبح من المستحيل تطبيق مبدأ المساواة، ولا تتحقق المساواة القانونية في مثل هذه الظروف إلا بطريقة شكلية.
وفي الواقع، فإن من يملك الموارد ورأس المال لديه حقوق أكثر. وبعبارة أخرى، يحق لمن هو أكثر ثراءً الحصول على المزيد من المساعدة القانونية والطبية، والتعليم الأفضل والأمن. وبالتالي، فإن نوع البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يحدد مستوى تطور الديمقراطية في المجتمع. إحدى مشاكل الديمقراطية التي تتطلب دراسة معمقة، تتصل بتطبيق سلطة الشعب عن طريق انتخابات مجالس الإدارة. وفي الوقت ذاته، إن كيفية تشكيل الخيار السياسي لكل مواطن وسبب تشكيله وبلورته، ينطوي على أهمية كبيرة. ويستند كل مواطن في التعبير عن إرادته إلى تصوره للعالم، أو للعمليات السياسية التي تجري في البلد، أو للرأي العام السائد، أو لشخص سياسي. وتتشكل هذه التصورات من مصادر مختلفة، لكن المصادر الرئيسية للمعلومات هي وسائل الإعلام، نظرا لتأثيرها القوي على وعي عدد غفير من المواطنين، وتستخدمها بعض القوى السياسية كأداة للتلاعب بالوعي العام الجماهيري. ويهدف التلاعب بالوعي إلى خلق الظروف للتحكم في سلوك الناس. وتتمثل هذه الشروط في تكوين مثل هذا الرأي العام، الذي بفضله يمكن إجراء تحولات سياسية محددة. ولتنفيذ ذلك، تقوم وسائل الإعلام بعزل السكان عن الأحداث والظواهر الواقعية التي تحدث بالفعل، وهناك الكثير من التقنيات المعروفة، بفضلها تشوه وسائل الإعلام الواقع القائم وبالتالي تشكل في أذهان السكان فكرة مشوهة عن العمليات الجارية وعن صورة العالم ككل. ومن بينها: قمع أي حقائق؛ تمجيد الحقائق الأقل أهمية على حساب الحقائق الأكثر أهمية؛ نقل حقيقة معينة إلى المجال العام؛ تكرار استخدام الاقتراح؛ واستخدام الشائعات والتكهنات باعتبارها حقائق موثوقة؛ استبدال الحقائق بالأباطيل. إن الشخص الذي لا يستطيع الوصول إلى المعلومات والمعرفة الموثوقة، ويقع في قبضة المفاهيم الخاطئة والقوالب النمطية والأحكام المسبقة، لا يستطيع اتخاذ القرار الصحيح.
وفي غياب الوصول المتساوي وغير المحدود إلى المعلومات والمعرفة، فمن المستحيل بناء مجتمع عادل من الناس الأحرار والمتساوين. إن إرادة الشعب، المشروطة بأفكار حول واقع غير موجود، لا يمكنها أن تعبر عن مصالحه الخاصة. كتب الكاتب والعالم السياسي الأمريكي والتر ليبمان، بعد أن أدرك المشاكل الواضحة للديمقراطية: «إن حماية مصادر الرأي العام هي المشكلة الأساسية للديمقراطية».
وعلى هذا النحو فإن التلاعب بالوعي ممكن فقط في حال أن المتلاعب به لا يخمن أن وعيه يتعرض للتلاعب، ويجب إخفاء أنشطته تماما. الديمقراطية نظام يصعب فيه فهم ما هو موضوع الحكم ومن المسؤول عنه. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن «الجسر» الرئيسي بين الحكومة والمجتمع هو وسائل الإعلام، التي لا تقوم بتصفية تدفق المعلومات فحسب، بل تحد أيضا من الوصول إليها. وفي غياب فهم واضح مَن الذي يخضع للإدارة، فمن الصعب تحديد مَن يتحمل مسؤوليتها.
وفي العالم الحديث، وتحت ستار الديمقراطية يجري إخفاء عنف سلطة النخب، ومن يدور في بيئتها الفاقدة للمسؤولية، وتفلت من العقاب المشروع، وتصادر ثروات الشعب عن طريق التلاعب بوعي الناخبين. في مثل هذا النظام، لا توجد عقيدة تعمل على توحيد القوى الشعبية لتحقيق أهداف مشتركة. إن الديمقراطية في هذه الحالة تكون تعبيرا سياسيا عن مصالح النخب المالية والسياسية والحاكمة، ولكن ليس المجتمع بأكمله، وكقاعدة عامة، تتعارض مع مصالحه. ويلعب تكوين رأي عام إيجابي حول النظام السياسي والبنية الاجتماعية والاقتصادية للدولة دوراً رئيسيا في ضمان استدامة نظام الحكم الديمقراطي. مثل هذا التلاعب بالرأي العام يحل بطريقته الخاصة، محل العقيدة.
كاتب عراقي