«عندما تزهر البنادق».. رواية تاريخية لبديعة النعيمي

بعد روايتيها «فراشات شرانقها الموت» 2017، و«مزاد علني» 2018، تصدر للكاتبة الأردنية رواية جديدة بعنوان «عندما تزهر البنادق» (دار فضاءات، عمان، 2020) وهي رواية تذكرنا بالزمن الذي مضى. فمن خلال الذاكرة المعطوبة التي تحتل مساحات كبيرة في مونولوجات زينب الساردة، والبطلة الوحيدة فيها، تعود بنا إلى بدايات الهم الفلسطيني، بدءا من وعد بلفور 1917 مرورا بتعيين الصهيوني هربرت صموئيل مندوبا ساميا للبريطانيين على فلسطين 1920، فموافقة الكونغرس الأمريكي على تنفيذ وعد بلفور 1922، فثورة البراق 1929 فثورة 1936، التي استمرت ست سنوات انتهت بالإضراب الطويل الذي استمر ستة أشهر، وعُلق بتدخل من القادة العرب الذين خدعوا الفلسطينيين في تموز/يوليو 1937 وأقنعوهم بتعليق الإضراب. مرورا بتجدد الثورة عام 1939 وظهور القائد عبد القادر الحسيني بصفته زعيما للفلسطينيين.. وانتهاء بوقوع الأرض الفلسطينية تحت الاحتلال.
وفي الأثناء تتذكر زينب بمزيد من التفاصيل الحوادث التي ألمت بقرية دير ياسين، وهي قرية تقع على مسافة قصيرة من القدس- فقد قامت سرديات الذاكرة في الرواية على تبئير (المجزرة) التي نفذتها عصابتا شتيرن والأرغن، بدعم من عصابة الهاجاناه بقيادة بن غوريون. وهذه الحوادث تتدرج شيئا فشيئا مشيرة إلى النزاعات اليومية التي تتكرر بين مستوطني جفعات شاؤول القريبة من دير ياسين، وأهالي البلدة ، ووفق ما ذكرته الحوليات، وكتب المؤرخين، فقد وقَّع مستوطنو جفعات شاؤول وثيقة عدم اعتداء مع الأهالي، إلا أن اليهود، مثلما يؤكد أهالي البلدة، وفي مقدمتهم أبو سالم، الذي استشهد في المجزرة، وسالم، ومحمود، وأكرم، وأيوب، والمختار، وآخرون.. لا يُؤمن جانبهم، كونهم لا يفون بعهد، ولا يراعون ذمة، كعادتهم المعروفة المألوفة منذ عشرات القرون. فقد أغاروا على القرية في ليلة 9 نيسان/إبريل عام 1948 على حين غرة، ومن غير سبب مباشر، أو غير مباشر، إلا من سبب واحد هو حرصُهم على نشر الرعب في صفوف المدنيين، كي يحملوهم على مغادرة قراهم إلى أيّ منفى. ولم تستطع بنادق المدافعين عن القرية الصمود طويلا، لأسباب لم تعد مجهولة، وإن كانت الساردة لا تفتأ تُذكّر بها، فهي تشير لنفاد الذخيرة، وإلى قِدَم أسلحة المقاتلين، فهي بنادق تعود لزمن الحرب الكونية الأولى، وفعاليتها شبه معدومة، إذا قيست بفاعلية الأسلحة الجديدة التي تتلقاها العصابات الإرهابية الصهيونية، وفي مقدمة ذلك الرشاشات الأوتوماتيكية، ومدافع الهاون..
وعلى لسان الساردة التي تكاد ذاكرتها، لهول ما تكدس فيها من مآسٍ، تفقد ملامح الماضي، وذكراه، تروي الفظائع التي ارتكبت لناجي، ابن عمها من امرأته اليهودية غير المتصهينة، وتحاوره بعصبية، فكيف لها أن تنسى من بقروا بطون الحوامل، واستخرجوا الأجنة من الأرحام، وتراهنوا على بعضهم إن كان ذكرا أم أنثى، وحين خسر أحدهم الرهان أفرغ في الجنين ذخيرة رشاشه، وهو الذي لم يكن في حاجة لهاتيك الطلقات ليموت، فهو ميّت على أي حال. والفظائع التي تروى في الفقرات الأخيرة من الرواية تقترن بيوميات المجزرة ساعة تلو الأخرى. 9 و10 و11 إبريل (1948) وبين الجريمة والجريمة تبرز مريم، وتبرز زينب، ويبرز ناجي، الذي يحاول أن يخفف آثار الصدمة النفسية والجسدية، التي ألجأت زينب للمستشفيات، والمصحات العقلية، مُددا ليست بالقصيرة. وعندما تستأنف سيرتها الأولى بصفتها امرأة سويَّة، لا تعاني الجنون، ولا الانفصام، ولا من فقدان الذاكرة، تقرّر التواصل مع عمها بكر، وهو الوحيد الذي بقي من آل أسعد على قيد الحياة. ولم يغادر إلى عين كارم كغيره، واختفى. وأخيرا يتوصل ناجي بطرقه الخاصة لمعرفة مكانه، فهو في الناصرة. وكانت زينب قد رأته في المنام يحمل قنديلا عظيما يضاهي بنوره نور الشمس. وفي الصباح جاءها ناجي في المصحّ ليخبرها بالاستعداد لمقابلة عمها وأسرته، وهكذا تغادر المستشفى بعد أن أقامت فيه عشرة أعوام ظنت نفسها فيها حيوانا حبيسا في قفص، كتلك التي تحبس في حدائق الحيوان. وفي صبيحة العيد تجد نفسها مع ناجي يبحلقان بالقادمين أمام إحدى البوابات التي تطل على القدس الجديدة عبر السور التاريخي، وكانت العادة قبل عام 1967 أن يلتقي الفلسطينيون بذويهم عبر هذه البوابة التي تعرف باسم بوابة مندلبوم في الأعياد، بترتيبات من الصليب الأحمر الدولي.

تبدو الرواية كمن يمْعنُ في التأريخي على حساب الروائي. وهذه الملاحظ لا تعدو التنبيه على بعض النواقص. وهي إشاراتٌ لا تقلل من قيمة الرواية، ولا من مواهب الكاتبة، وقدراتها على الإبداع.

ولأنّ هذه الرواية هي الثالثة للكاتبة بديعة النعيمي، فإننا نجد فيها الكثير من الدلالات على الخبرة الجيدة في كتابة الرواية، وأنها ليست فجة، بدليل اتباعها (تكنيكا) سرديا غير شائع، ولا متداول تداولا كثيرا في ما ينشر من روايات، فهي تقسم الرواية لأقسام في الأول والثاني والثالث منها تعتمد تناوب المشاهد: فمشهد ترصد فيه الحاضر الذي تعانيه الساردة زينب، وتحاول أن تتذكر فيه ما جرى ، وتشير لتعامل الأطباء مع مريضة تنتابها حالات من الجنون، ونوبات من التوتر، تحتاج فيها لحقنة تجعلها تستسلم فورا لنوم عميق. يلي هذا المشهد مشهد آخر تعود بنا المؤلفة فيه إلى الحوادث، والمجريات، التي شهدتها دير ياسين بصفتها فضاء المحكي الروائي، ولهذا يجد القارئ نفسه أمام سيناريو يتنقل به من حاضر لماضٍ بالتناوب، وكأنه يشاهد فيلما وثائقيا، فكلما انتهى الشهود من الإدلاء بأقوالهم، ينقلنا الفيلم إلى المكان الذي وقعت فيه الأحداث التي جرى تسجيلها سابقا على شريط الذاكرة. وبهذا (التكنيك) تزاوج النعيمي زمنيّا بين التسلسل وعدمه. فلو أحب القارئ أن يقرأ المشاهد التي تعتصر فيها زينبُ ذاكرتها المعطوبة، فسوف يظل في الحاضر، وإذا فعل العكس بقراءة المشاهد الأخرى، فإنه يجد نفسه في بؤرة الواقع التاريخي بعد نيف و70 عاما مرت على مجزرة دير ياسين.
على أنَّ المؤلفة في القسم الأخير أقلعت عن هذا، وتركت لزمن الوقائع التاريخية أن يهيمن على السرد، وأن يهيمن على الحوار، وأن يهيمن على الوصف القليل الذي يتخلل الفصول القصيرة في لغة تراوح بين الدارجة التي نجدها في ما يتبادله الأشخاص من أبناء الحاج أسعد، وأحفاده، والمختار، وغيره من رجالات القرية ونسائها، من أقوال وملفوظات، واللغة التي يتمثل فيها وعي السارد العليم تارة، والساردة المشاركة زينب تارة أخرى، فالمؤلفة تراعي في هذا تعدد أساليب الحوار بتعدد المشاركين فيه. ولا تخلو هذه التجربة من بعض التعثُّر، فقد وجدنا في هذه الرواية القصيرة، التي تقوم على حدث واحد هو المجزرة، بعض الاضطراب في نسج الحكاية، ومن ذلك أن الكاتبة أقحمت في عدد من الصفحات مشهدا زار فيه صاحبُ (صندوق العجب) قرية دير ياسين، ولو حذف هذا المشهد من الحكاية لما ترك حذفه ثغرة في النص. وهذا يعني أن كل ما جاء عنه من باب التزيُّد، والفضول. كذلك فوجئنا، ونحن نقرأ عن الجد، وهو يحاول إقناع زينب بقبول الزواج من ابن الجيران محمود، بأنها تعيش قصة حب (عذرية) مع رجل آخر (نعيم) شاهدته يوما على شاطئ البحر. فقبل أن تجيب بالموافقة، أو الرفض، تستسلم لتداعياتٍ توغل في البعيد، هامسة لنفسها «وماذا أفعل بقلبي الذي ما زال يترنح هناك على المقعد المقابل للميناء؟ هل أستطيع أن أنساه وأنسى ذلك المرفأ الذي شهد نظراتنا الأولى.. حبنا الأول.. شغفنا الأول.. هل أنسى وعده الذي قطعه لي.. وأنه لن يكون إلا لي». وهذا الأمر لم يُذكر سابقا، لا من باب التصريح، ولا التلميح، مما ترك فجوة في نسج المؤلفة لحكاية الرواية. علاوة على هذا جاءَ موت الجد مفاجئا للقارئ، إذ تخلو الوقائع من أيِّ إشارة تمهيدية تحفزنا لتوقع مثل هذه النهاية. فالسؤال عن وفاة الجد يفتقر للجواب. نعم، يحدث أن يتوفى الله الأشخاص فجأة في الواقع الحياتي، لكنَّ هذا غير مقبول في الرواية، لأن قوانين الفن الروائي تختلف عن قوانين الحياة. فكاتب الرواية يستطيع بما لديه من دراية بفنه أنْ يجعل من هذه الوفاة المفاجئة شيئا متوقَّعا، أو شبيها بما هو متوقع.
تضافُ إلى هذه الإشارات إشارةٌ أخرى لمبالغة المؤلفة في تتبع وقائع المجزرة بالساعة واليوم والليلة، فقد وجدت نفسها تذكُر ما جرى ساعة بساعة بدافع الرغبة في الدقة، لكن هذه الرغبة في الدقة، مع تقديرنا لها، وإعجابنا بها، أحالت هذا الجزء من الرواية إلى ما يشبه الفيلم التسجيلي الذي يطغى التوثيق فيه على المتخيَّل السردي، فتبدو الرواية كمن يمْعنُ في التأريخي على حساب الروائي. وهذه الملاحظ لا تعدو التنبيه على بعض النواقص. وهي إشاراتٌ لا تقلل من قيمة الرواية، ولا من مواهب الكاتبة، وقدراتها على الإبداع.

٭ ناقد وأكاديمي من الأردن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابوهزار الحسيني:

    تحياتي للناقد الكبير الدكتور ابراهيم خليل
    وشكرا للروائية النعيمي على هذه الرواية التي جعلتنا نعيش قصة فيها ما فيها من ذكريات الزمن الماضي الجميل وفيها ما فيها من المآسي والربط الجميل المتماسك الذي يجعلك تعيش داخل الرواية لما فيها من صور للقرية الفلسطينية وكأنك تقف هناك بين أزقتها مع أهلها بأفراحهم وأتراحهم وما تحمله لهم الأيام من ويلات وآهات
    رواية تسرد التاريخ بطريقة روائية بامتياز جمعت بين المونولوجيا والعمق في التعابير والمفردات باللهجة العامية والصور الجميلة والنظرة المستقبلية
    تبدو الرواية كمن يمْعنُ في التأريخي على حساب الروائي. وهذه الملاحظ لا تعدو التنبيه على بعض النواقص. وهي إشاراتٌ لا تقلل من قيمة الرواية، ولا من مواهب الكاتبة، وقدراتها على الإبداع.

إشترك في قائمتنا البريدية