لم تكد عاصفة النائبة المسلمة في مجلس النواب الأمريكي إلهان عمر تخفت حتى اندلعت عاصفة (صغيرة) داخل حزب العمال البريطاني باستقالة تسعة نواب متهمين الحزب بالتردد في الوقوف أمام عداء السامية المتأصل فيه كما قالوا. ثم جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن تزايد معدلات العداء للسامية بعدما سجلت حوادث في حركة الستر الصفراء. وبدا الجو مهيأ لموجة جديدة من العداء للسامية التي لها تاريخ طويل في أوروبا. وظلت لقرون متأصلة في الفكر السياسي والأدب والمنظور الشعبي وقادت لاضطهاد وتشريد لليهود في أنحاء القارة، وأنتجت كما هائلا من نظريات المؤامرة مثل “بروتوكول حكماء صهيون” الذي تبين لاحقا أنها من صناعة المخابرات الروسية في زمن القيصر لتبرير قتل اليهود.
وبلغت ذروة العداء للسامية في الهولوكوست التي أدت لمقتل ملايين اليهود في غرف الغاز النازية وأنتج العداء بالضرورة هجرات إلى أمريكا وفلسطين أدت لنشوء دولة إسرائيل بدعم من قوة عظمى وهي بريطانيا عام 1948. وظل تعريف عداء السامية رهنا بالظروف والأحوال، فهو وإن ارتبط في جوهره بمعاداة اليهود إلا أنه أصبح سلاحا لإسكات من ينتقد دولة إسرائيل والمؤيدين لها في الغرب، خاصة جماعات الضغط التي تدافع عن مصالح إسرائيل في أمريكا وأوروبا. ويتم التلويح بمعاداة السامية لأي شخص يرفع صوته ناقدا السياسات الإسرائيلية في ضد الفلسطينيين أو حتى تحول إسرائيل باتجاه اليمين المتطرف. وبين حماس المؤيدين لإسرائيل وسوء فهم أو عدم وعي الناقدين لها خاصة في السياق الغربي الذي ولدت فيه حركة معاداة السامية، يغيب النقاش الحقيقي والشرعي والذي كان هدف عمر من طرحه وهو الحديث عن الدور السلبي الذي تمارسه جماعات اللوبي في واشنطن على السياسة الأمريكية خاصة اللجنة الأمريكية -الإسرائيلية للشؤون العامة “ايباك” والتي كانت موضوع تغريدة عمر، النائبة الجديدة عن مينسوتا والتي استشهدت بها بأغنية راب مشهورة “عن البنجامينات” أي الدولارات، خاصة أن الدولار الأمريكي يحمل صورة بنجامين فرانكلين. وعندما سئلت عما تقصده قالت ايباك. وفجرت تغريدتها عاصفة في واشنطن وتدافعت الأقلام الصحافية لاتهامها وشيطنتها مع زميلتها رشيدة طليب، وهي أول أمريكية -فلسطينية تدخل مجلس النواب الأمريكي. وامتلأت الصحف وشبكات التفلزة الأمريكية بالتعليقات والشجب رغم اعتذار عمر عن جهلها بالاستعارات المعادية للسامية، وهي التي ظلت منذ دخولها كأول مسلمة محجبة لمجلس النواب محلا لاهتمام الإعلام بسبب مواقفها وزميلتها رشيدة طليب من حركة المقاطعة لإسرائيل “بي دي أس”. والجدل الذي أثارته تغريدة سابقة لها تنتقد العملية الإسرائيلية ضد غزة عام 2012 واستخدمت فيها كلمة “تنويم” إسرائيل للعالم حتى لا يرى فظائعها والتي فسرها أنصار إسرائيل بمعاداة السامية.
أجواء 2006
ويذكر الجدل كما كتب بن إهيرنتش في “نيوريبالك” (15/2/2019) بعام 2006 عندما نشر الأكاديميان المعروفان ستيفن وولت وجون ميرشيمر مقالة في مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس” وناقشا فيها أن الدعم العسكري الضخم الذي تحصل عليه إسرائيل من الولايات المتحدة لا معنى له في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، خاصة أنها لم تعد كما قالا “رصيدا استراتيجيا مهما”. وعندما بحث الكاتبان عن سبب هذه السياسة غير المنطقية وجدا انها تتعلق بجهود جماعات الضغط التي تقوم “بتوجيه السياسة الخارجية لصالح إسرائيل”. وأكد الكاتبان إن اللوبي الإسرائيلي ليس منظمة سرية أو دولة عميقة تتآمر ولكنه “تحالف فضفاض من الأفراد والمنظمات” يجمع في داخله مسيحيين إنجيليين ومحافظين جدد وايباك القوية التي قد يؤدي دعمها أو معارضتها للمرشح إلى فوزه أو هزيمته. وكتب الباحثان “في الحد الأدنى” أن ايباك، الوكيل الفعلي لحكومة أجنبية قامت “بخنق الكونغرس بشكل منع من مناقشة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إسرائيل فيه”. وناقش الكاتبان أن أي شخص له تجربة في السياسة الانتخابية الأمريكية يعرف أن الدعم لإسرائيل لا يدفعه التعاطف مع الصهيونية ولكن التنظيم والتأثير والذي يتطلب في واشنطن المال. وبهذه المثابة أدت مقالة ميرشيمر وولت إلى ردة فعل شديدة من المعلقين الذين اصطفوا لتمزيق الكاتبين. وكتب جيفري غولدبيرغ في مجلة “ذا أتلانتك” أن وولت ليس إلا شخصا وضيعا كارها لليهود “يتكسب من جعل اليهود كبش الفداء”. أما ديفيد روثكوف فكتب في “فورين بوليسي” إن وولت وميرشيمر ليسا معاديان للسامية إلا أنهما “اتخذا قرارا لا يخدم إلا الذات للتكسب من معاداة السامية”.
تحولات
كان هذا في عام 2006 ولكن عندما دخلت إلهان عمر المسرح السياسي الوطني فقد تغير الكثير حيث شاهدنا ثلاث حروب إسرائيلية مدمرة على غزة وتوسعا هائلا في الاستيطان في عملية وحشية ومستمرة للاحتلال بالإضافة لانهيار المحادثات التي ترعاها الولايات المتحدة وغياب أي شيء يمكن تسميته “اليسار” وظهور فجوة واسعة بين اليهود الأمريكيين ويهود إسرائيل ورئيس وزراء إسرائيلي ذهب بعيدا في محاولاته لإحراج رئيس يمثل الحزب الديمقراطي وقام بتبني اليمين الفاشي. وهناك صدوع بدأت تظهر في الجدار الدفاعي الذي بناه الإعلام الأمريكي والذي منع ولسنوات أي نقد لإسرائيل بحيث باتت الأصوات الناقدة تظهر فيها وفتحت المجال أمام النقاش. والجدل الذي ثار حول عمر هو إشارة دالة حول طبيعة النقاش المقبل.
القصة
وبدأت قصة تغريدة عمر عندما هدد زعيم الأقلية في مجلس النواب، كيفن ماكارثي النائبة وزميلتها طليب باتخاذ إجراء ضدهما بسبب دعمهما لحركة المقاطعة ضد إسرائيل قائلا “لا يمكن الاستمرار في هذا”. وتشير حركة المقاطعة إلى قوة اللوبي المؤيد لإسرائيل لمنع حركة المقاطعة في أمريكا والذعر الذي أصابه من ان لا يستطيع منعها. وهناك ما لا يقل عن 26 ولاية أصدرت قوانين تعاقب أي شخص يظهر الدعم لحركة المقاطعة. مع أن الحركة هي سلمية الطابع ويستخدمها الناس منذ عقود لإنهاء نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا أو الفصل بين البيض والسود في الحافلات العامة بولاية ألاباما. ولهذا كان العمل المهم لمجلس الشيوخ هو منح الغطاء القانوني للخطوات الفدرالية ضد حركة المقاطعة بعد تقدم السناتور الجمهوري ماركو روبيو بمشروع قرار بهذا الصدد. ومع أن الجدل حول تغريدة كاد أن يعيد جدلا مشابها لما حدث مع مقالة كل من وولت وميرشيمر حيث لم تواجه عمر الغضب من الإعلام ولا حزبها بل وطالب الرئيس دونالد ترامب باستقالتها فيما دعا مايك بنس، نائب الرئيس إلى تحمل النائبة تداعيات ما كتبته، إلا أن اليهود اليساريين جاءوا لنجدتها والدفاع عنها وموقفها في “الغارديان” و”جاكوبين” و”ذا نيشن” وقالوا إن عمر كانت محقة في نقدها ايباك وإن اتهامها بمعاداة العنصرية هي انتهازية. فيما رفض الليبراليون اليهود الانضمام لحملة الهجوم على عمر ووصفها أحدهم باللامسؤولة فيما ركز آخر على ما أسماه “بالمعايير المزدوجة المقززة”. وكتب روثوكوف الذي لم يرحم وولت وميرشيمر تغريدة انتقد فيها كلام عمر لكنه أكد على أهمية التفريق بين معاداة السامية ونقد إسرائيل. وعند هذا الحد لم تعد تغريدة عمر عن معاداة السامية بقدر ما أصبحت تركز على الانقسام داخل الحزب الديمقراطي من إسرائيل، وهو ما ركزت عليه تقارير في شبكة “سي أن أن” و”نيويورك تايمز” و”بوليتكو” و”واشنطن بوست” ومجلة “تايم” ولاحظت هذه التقارير إن واحدا من سبعة ديمقراطيين يرغب بالترشح للرئاسة صوت لصالح مشروع روبيو ضد حركة المقاطعة. وكشفت عن استطلاع بعد الآخر حول تراجع الدعم لإسرائيل في صفوف الحزب الديمقراطي. ففي الماضي كان من يتجرأ على نقد إسرائيل يدفع الثمن ولكن عمر لا تزال في مكانها، فقد فتحت النقاش حول الموضوع.
ضغط
وهذا ليس هو الحال في بريطانيا فحزب العمال ومنذ وصول زعيمه الحالي جيرمي كوربن يواجه اتهامات بمعاداة السامية. وهو أمر دعا النواب اليهود للاحتجاج علانية رغم ما قام به الحزب من تحقيق في الموضوع وإصداره توصيات لمعالجة المشكلة التي لم تخفت وظلت تظهر بين حين وآخر، كلما أراد التيار المعارض لكوربن الضغط عليه. وتحولت معاداة السامية وموقف كوربن غير الواضح من بريكسيت لسلاح في يد أعدائه وهو ما قاد إلى التطورات الأخيرة. وهي في مجملها ليست مهمة في ضوء الدعم الذي يحظى به كوربن داخل القواعد الشعبية والنقابات ولكون من استقالوا نوابا غير مهمين إلا أنها بمثابة تحذير وتؤكد على الاستخدام السياسي لموضوع معاداة السامية للضغط السياسي.
وكما لاحظت صحيفة “الغارديان” في افتتاحيتها فمعاداة السامية مرفوضة بكل أشكالها، لكن حزب العمال معروف بتقاليد النقاش الداخلي لكونه حزبا يجمع تيارات متعددة ومتباينة كانت تتعايش وتتوصل لتسويات داخل “الخيمة” الواحدة. لا ريب أن معاداة السامية كما كتب وولت في “فورين بوليسي” (15/2/ 2019) مرتبطة بتاريخ من القتل والكراهية من قضية الكولونيل دريفوس في فرنسا نهاية القرن التاسع والبروتوكولات وحتى الهجوم على المعبد اليهودي في بيتسبرغ. وبناء على هذا السياق فيجب أن يغضب الجميع ليس على تغريدة عمر التي عبرت عن سوء فهم لهذا التاريخ وبل على الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان الذي استخدم اتهامات معادية للسامية كلاسيكية ضد الثري اليهودي جورج سوروس. وفي الوقت الذي يعترف فيه وولت بأن نقد العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية هي “سيخ ساخن” من يلمسه يحترق، إلا أن هناك حاجة للحديث وبحرية عن القوى التي تشكل السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل والشرق الأوسط. وتضم هذه القوى بالإضافة إلى ايباك مجلس رؤساء المنظمات اليهودية الرئيسية في أمريكا والمسيحيين المتحدين من أجل إسرائيل والمنظمة الصهيونية الأمريكية والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي الأمريكي ومؤسسة الدفاع عن الديمقراطية والدور الذي يلعبه الملياردير شيلدون أديلسون وحاييم سابان. ورغم ما يكفله الدستور الأمريكي من حرية التعبير والتجمع إلا أن هذه المنظمات لا تختلف في شكلها عن لوبيات الدفاع عن السلاح وحماية مصالح شركات الأدوية والحريات المدنية. وما يجمع هذه اللوبيات المؤيدة لإسرائيل ليس الدين أو العرق بل الأجندات. وهي بهذه المثابة ليست متجانسة وتختلف في ما تطمح لتحقيقه، ولهذا السبب من الخطأ وصفها بـ “اللوبي اليهودي”. وتستخدم اللوبيات هذه عددا من الأساليب من جمع التبرعات والتأثير غير المباشر. كما أنها لا تسيطر بالضرورة على عملية صناعة القرار والسياسة المتعلقة بالشرق الأوسط رغم ما تتمتع به ايباك من تأثير واسع. ويعتقد وولت أن قضية معقدة مثل معاداة السامية لا يمكن معالجتها بتغريدة لا تتجاوز 140حرفا. وحتى الوعي بالدور الخطر للوبيات لا يعني الحماية منها. ويشير لكتابه مع ميرشيمر عام 2007 والذي وصفا فيه تاريخ معاداة السامية بـ “سجل العار” وأكدا فيه على الدور الإيجابي لايباك وبعض النقد لها. ورغم تأكيد الكاتبان على أهمية مساعدة أمريكا إسرائيل إن تعرضت الأخيرة للخطر إلا أنهما لم يسلما من تهمة معاداة السامية والنقل عن المصادر النازية. وبعد 12 عاما على صدور الكتاب يشعر وولت بالدهشة من فكرة اتهامه وزميله بمعاداة اليهود لمجرد الحديث عن ايباك
فبعد 40 عاما من الاحتلال وضرب غزة والتحول لليمين في إسرائيل وتراجع الدعم لها في الولايات المتحدة يجد اللوبي المؤيد لإسرائيل أن أسلم طريقة لحماية إسرائيل هي الهجوم على كل من ينتقدها. واللافت أن الحديث عن العداء للسامية يتساوق مع تصاعد العداء للإسلام في أوروبا وبالذات داخل حزب المحافظين وإدارة ترامب لكننا لم نر نوابا يستقيلون بسبب معاداة الإسلام بل وأصبح العداء مقبولا كما وجد استطلاع وتقرير لمنظمة “أمل لا كراهية” البريطانية.