تبدو سياقات حياة الأفراد نتيجة لسلسلة طويلة ومتشعبة من القرارات العديدة والكثيرة. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على المجموع عندما تكون القضايا مشتركة وكذلك المصائر. هنا لا بد من تعريف مفهوم القرار كمحدد لطبيعة السلوك والتصرف تجاه مسألة ما أو قضية ما تخص الفرد أو المجتمع أو تتصل بمجريات الحياة العامة؛ فالقرار وبرغم كونه فعلا إراديا واختياريا، لكنه بالإجمال ينشأ بفعل ضرورة مواجهة مشكلة ما أو قضية ما تتطلب اتخاذ القرار بهدف إيجاد الحلول المناسبة؛ فبدون وجود قضية أو مشكلة لا نبدو مضطرين لاتخاذ قرارات بالمعنى الشخصي أو الإداري الخاص – المتصل بإدارة شؤوننا الخاصة أو إدارة منظمات الأعمال الخاصة – أو العام المتصل بإدارة الدولة والمجتمع على مستوى السلوك والفعل السياسي.
توفر البدائل
وعملية اتخاذ القرار تتضمن بدائل وخيارات؛ لأن عدم توفر البدائل والخيارات يتنافى ومفهوم القرار؛ ذلك أنه عندما لا يكون أمامنا أي خيار يصبح التصرف اضطراريا أو جبريا؛ كأن نضطر للخروج من قاعة أو مكان ليس فيه إلا باب واحد؛ في هذه الحالة لا ينبغي وضع الأمر في سياق التطبيقات العملية لمفهوم القرار الإداري أو حتى الشخصي؛ ذلك لأن القرار – وخصوصا القرار الإداري – يتسم بالاختيار بين بدائل عديدة متاحة لكنه يسعى إلى اختيار أفضل البدائل وأكثرها ملاءمة للواقع والوقائع؛ كما يتسم بالإرادية والوعي وهو ما يجعله على درجة عالية من العقلانية.
القرار الإداري
ومن هنا تبرز أهمية التمييز ما بين القرار غير الإداري والقرار الإداري في جانبين مهمين هما: الأول، أن القرار غير الإداري يغلب عليه طابع الانفعال والارتجال وعدم حساب المخاطر وعدم الاستناد إلى قاعدة ضرورية ومهمة من المعرفة التي توفرها المعلومات، وكذلك عدم عنايته بما تفرضه الوقائع من ضرورات ومهمات وتحديات وهو يفتقر إلى المستوى المطلوب من العقلانية بدرجة عالية؛ فيما أن القرار الإداري المسؤول يبنى على قاعدة المعرفة التي توفرها المعلومات والمعطيات والمعرفة بالوقائع والربط بينها بدرجة كبيرة وهو يسعى دائما إلى تحقيق ضروة توافر المعلومات والسعي وراء الحصول عليها بأكفأ وأنجع وأصح الطرق والمناهج، ولذا فهو يتوافر على مستوى متقدم وكبير من العقلانية.
وفي حين يعتمد القرار الفردي غير الإداري على العقل الفردي المحدود والمستبد برأيه في الغالب؛ فإن القرار الإداري الصحيح يعتمد على العقل الجماعي عبر المشاركة في عملية صنع القرار؛ حيث أن مرحلة صنع القرار ينبغي أن تسبق عملية اتخاذ القرار وذلك في مضمار القرارات الإدارية العامة والسياسة السليمة والهادفة؛ فعملية صنع وتصميم القرار يضطلع بها أصحاب الخبرة والمعرفة والاختصاص وذلك لجعل عملية اتخاذ القرار أكثر عقلانية ومنطقية؛ ثم تأتي مرحلة اتخاذ القرار من قبل صاحب السلطة الشرعية سواء كان فردا أو مجموعة من الأفراد أو في أي مستوى قيادي أو إداري داخل منظمة أعمال أو مؤسسة أو دولة وهو ما يعطي في النهاية طابع الشمولية والرشد للقرارات التي تتخذ سمة الإدارية العقلانية الهادفة. وهذا هو الفرق بين القرار غير الإداري والقرار الإداري في الجانب الأول.
الرغبات الشخصية
أما الجانب الثاني، فهو أن القرار غير الإداري يتسم بالخضوع للاعتبارات والرغبات الشخصية ويتم اتخاذه بهدف تحقيق المصالح الخاصة وهو يخضع لاعتبارات أصحاب النفوذ والتأثير في المجتمع بمعزل عن اعتبارات المصلحة الجمعية العامة؛ وهو برغم كونه سلوكا إراديا اختياريا واعيا يختار بين بدائل عديدة لكنه لا يراعي اختيار أفضل البدائل ولا يتوافر في الغالب على درجة كبيرة من الشعور بالمسؤولية الحقيقية الصادقة تجاه المجموع أو المجتمع؛ وهو في سعيه لتحقيق غاياته غالبا ما يقدم الخاص على العام، وغالبا ما يتجاهل حقائق الواقع ولا يعبأ بالمخاطر المتوقعة على المجموع وعلى حاضرهم وعلى مستقبلهم وعلى مصائرهم؛ وهو من هذه الوجهة يفتقر لسمة القرار الإداري الواعي العقلاني المسؤول، ويتخذ صفة الفردية والشخصانية وصفة تقديم الأنا الفردية أو الفئوية، وما يتصل بها من جماعات ضغط وتأثير ونفوذ والتي تمارس تأثيرها ونفوذها خارج أطر ونطاقات الشرعية والمشروعية والقانونية والدستورية.
تخطيط السياسات
وهذا ينقلنا إلى ملاحظة ضرورة توفر عدة سمات بارزة أخرى من سمات القرار الإداري العام أو القرارات السياسية الأشمل المتصلة بتخطيط السياسات وتحديد الإجراءات التي تمس كافة قطاعات المجتمع والتي لها علاقة بنشاطه وبالبرامج الهادفة إلى تطوره وارتقائه؛ وهذه السمات هي:
أولا: سمة الشرعية؛ إذ ينبغي أن تتسم السلطة أو الجهات التي تتخذ القرارات بالشرعية عوضا عن اتخاذها سمة الاستبداد واتخاذ الإجراءات وفق منطق تقرير الأمر الواقع بفعل أدوات الإكراه والقـوة.
أما السمة الثانية: فهي سمة المشروعية؛ وهذه تتأتى من توفر درجة عالية من القبول لدى الجهات أو المجاميع التي تتأثر بالقرارات والإجراءات؛ وذلك يأتي في الغالب عبر إتاحة المشاركة وبأوسع نطاق وضمن مستويات متعددة ومتفاوتة من حيث الأهمية في مناقشة القرارات وآلية اتخاذها؛ وذلك يكون عبر إجراءات وآليات دستورية وبرلمانية متاحة ومكفولة بما يتيح الاستفادة من آلية التفويض من قبل المجموع أو القواعد العريضة في المجتمع لمجموعات أو هيئات منتخبة أو مفوضة، أو عبر استطلاعات الرأي الخاصة والعامة.
وأما السمة الثالثة، فهي السمة المتصلة بمفهوم البرمجة والشمولية؛ فمن طبيعة القرارات الإدارية العاقلة الراشدة أنها مبرمجة ومتدرجة ومتوازنة وهادفة وهي وإن كانت تفصيلية وجزئية لكنها تراعي الترابط العام وتراعي ضرورة تحقيق مفهوم العلائقية في تحقيق الغايات الشاملة فيما بينها؛ وهذا ما يتيح لها اتخاذ الصفة الاستراتيجية في مضمار المساهمة في مجالات التخطيط والتنفيذ بغية الوصول إلى الغايات الشاملة بعيدة المدى.
في الإجمال؛ هذه بعض أهم الفوارق التي تميز الإجراءات المتصلة بتوجيه وتحديد سياق حياة المجتمعات التي تقاد بالقرارات الشخصية غير الإدارية وبين تلك التي تقاد وفق القرارات والإجراءات ومنهجية الإدارة العامة الواعية والعاقلة الراشدة الموجهة نحو تحقيق غايات تسهم بالتطور والتقدم والارتقاء بديلا عن االتخلف والركود المزمن الذي تعاني منه مجتمعاتنا على امتداد خطوط العرض والطول من جنوب ووسط وشرق هذا الكوكب.
كاتب فلسطيني