عندما تكتب الروائية نهايتها

حجم الخط
0

كتبت لي صديقة روائية معلّقة على مقال الأسبوع الماضي «برونتي وشبيهاتها.. رواية واحدة تكفي» الذي تناولتُ فيه الروائيات اللواتي كتبن رواية واحدة، لكنها ضمنت لهن الخلود الأدبي وبيعت منها ملايين النسخ. كتبت الصديقة معاتبة لماذا لم أذكر الكاتبات العربيات واقتصرت على الغربيات. وضربت لي مثلا بالروائية المصرية عنايات الزيات. وللتذكير فقد كتبتُ مقالا قبل أكثر من سنة في هذه الصحيفة بعنوان «عنايات الزيّات.. الجزء اللامرئي» تحدثت فيه عن مأساتها وعن كتاب إيمان مرسال عنها. والحقيقة أن المقارنة ظالمة بين الروائيات الغربيات اللواتي كتبن رواية واحدة والروائيات العربيات. تماما مثل المقارنة بين أرقام مبيع الكتاب العربي والكتاب الغربي.
وإضافة إلى عنايات الزيات التي وضعت حدا لحياتها وهي في ريعان شبابها تاركة لنا رواية واحدة، هناك كاتبة أخرى هي اللبنانية العراقية حياة شرارة كتبت بدورها رواية واحدة، ومثل عنايات وضعت حدا لحياتها. وبغض النظر عن هاتين النقطتين المشتركين بينهما، فإن ما يفرق بينهما أكثر مما يجمع. فلكل كاتبة ظروفها ودوافعها وتركيبتها النفسية، ومن التسطيح الفكري صبّهما في قالب واحد.
وظاهرة انتحار الكتاب شغلت علماء النفس والاجتماع ونقاد الأدب مرارا وأسالت حبرا كثير، خاصة أننا نجد من ضمنهم من تركوا بصماتهم الواضحة في فن الكتابة نذكر منهم إرنست همنغواي أو الشاعر الروسي ماياكوفسي، أو حتى أشهر روائي ياباني يوكيو ميشيما، الذي انتحر بطريقة استعراضية. والأمر لا يختلف عند الكاتبات، فمن اللواتي وضعن حدا لحياتهن الكاتبة البريطانية رائدة تيار الوعي فيرجينيا وولف التي أغرقت نفسها في النهر، أو الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث التي كتبت بدورها رواية واحدة فقط، وأنهت حياتها بوضع رأسها في فرن غاز، أو آن سيكستون الحائزة جائزة بوليتزر في الشعر وقد أنهت حياتها اختناقا بدخان سيارتها. فلكل واحد أو واحدة من هؤلاء الكتاب أسبابه في الانتحار. وإن تشابهت الوسيلة أحيانا، فحياة شرارة وضعت حدا لحياتها بالغاز في حادثة أكثر مأساوية حيث انتحرت معها ابنتها مهى ونجت ابنتها زينب بمعجزة. وقصة حياة شرارة تستحق أن تروى لنتبين الأسباب التي أوصلتها إلى هذا القرار المرعب. فما كان شيء في بداياتها يوحي بهذا المصير، إذ وُلدتْ لأب لبناني مثقف كان بيته صالونا أدبيا يزوره بانتظام الجواهري والسياب ونازك الملائكة وغيرهم من أدباء العراق الكبار، وفي هذا الجو تربت حياة، وانتمت صغيرة إلى الحزب الشيوعي، وإن كانت قد تركته تنظيميا بعد فترة. درست الأدب الإنكليزي، وحصلت على دكتوراه من موسكو عن أدب تولستوي، وكان يمكن لحياتها أن تسير كما تشتهي فقد تزوجت بجراح عظام شهير، وأنجبت بنتين ودرّست الأدب الروسي في الجامعة وأصدرت عنه ترجمة وتأليفا عدة كتب منها «تولستوي فناناً» و«مدخل إلى الأدب الروسي» كما كتبت عن جارتها الشاعرة نازك الملائكة كتابا. غير أن النظام العراقي الحاكم آنذاك بدأ بمضايقتها فنُقلت من التدريس في الجامعة إلى العمل مترجمة في مشروع صناعي بعيد عن بغداد لكنهم اضطروا لإعادتها لأنهم لم يجدوا من يحلّ محلّها.
وما زاد الوضع مأساوية سجن زوجها مرات عديدة ومضايقته، واشتدت سيطرة النظام واتباعه على الجامعة فكانت تُحصي عليها أنفاسها، فتلقي محاضراتها ومجموعة من الطلاب الأمنيين يرفعون عنها التقارير، خاصة أنها كانت تعمل أيضا في القسم العربي لوكالة «تاس» السوفييتية. وزاد الحصار الذي ضُرب على العراق من عزلتها، فقد كانت آثاره كارثية على الطبقة المتوسطة، فلا الوسط الأكاديمي كان سليما، ولا الوضع الاجتماعي أصبح مقبولا. حاولت مرارا السفر خارج العراق، لكن طلبها كان يرفض بحجة أن لا محرم معها بوجود زوجها في السجن، وحُجبت كتبها وضويقت أكاديميا، وتحولت تلك الشعلة المتقدة من النشاط إلى كائن هش محطم، ولعل روايتها الوحيدة «إذا الأيام أغسقت» التي كتبتها قبل رحيلها عن هذا العالم بأربعة أشهر كانت وثيقة نادرة سجلت تحولات الجامعة في ظل النظام البعثي الحاكم آنذاك، فصوّرت الدكاترة المقهورين والطلاب المخبرين والخوف الكاتم على الأنفاس إلى درجة خوف الإنسان من نفسه إذا تكلم بصوت مسموع. ولا أحسبها إلا تصف نفسها على لسان أحد أبطال روايتها حين قال «ماذا تعني الكتابة إذا أصبحتْ بلا غاية! أعني إذا لن تستطع أن تنشر ما تكتبه وتوصله إلى الناس! ما قيمتها إذا ظلت محفوظة في أدراج مكتبك أو على الرف؟ إن كل ما يمكن أن آمله هو أن ينشر نتاجي بعد موتي، إذا حالفه الحظ!». في هذا الجو من الرعب والخوف المتواصل والمراقبة من «الأخ الأكبر» كما في رواية 1984 لأورويل «شعرت حياة أنها محاصرة من جميع الجهات، فطلبت عندئذ إحالتها على التقاعد، رفض العميد طلبها، ثم قدمت طلباً للسفر مع ابنتيها خارج العراق، ورفض طلبها» كما كتبت أختها بلقيس، وحُرمتْ مهى من وظيفة تستحقها فقط لأنها ابنة حياة شرارة، فلم يبق أمامها من حل سوى أن تنهي حياتها مع ابنتها بطريقة تراجيدية، وصفتها أختها في مقدمتها الطويلة لرواية «إذا الأيام أغسقت» قائلة «عندما شاهدتْ مهى ممدّدة في الحمام أمامها، خيّم اليأس بفكيه ولا أمل من أن ينقذها من أظافره التي غرست بعمق تنهش أحشاءها. وأدركت أن كل شيء قد انتهى، دخلتْ الحمام وأوصدت بابه، وغادرت إلى العالم الآخر» وقد أشيع أن النظام هو من اغتالها غير أن تأكيدات أختها بلقيس شرارة زوجة المعماري رفعت الجادرجي حسمت اللغط حول هذا الموضوع.
وإذا كان تاريخَ ميلاد حياة شرارة (1935) وعنايات الزيات (1936) متقاربا، فوفاتهما متباعدة حيث ماتت حياة شرارة وهي في الثانية والستين من عمرها، أما عنايات الزيات فقد وضعت حدا لحياتها مبكرا إذ لم تكن تتجاوز السابعة والعشرين من عمرها حين تناولت علبتين من الحبوب المهدئة وفارقت الحياة. وقصة حياة عنايات الزيات أكثر إثارة من روايتها، وما كان الاهتمام بها يعود بهذه القوة لولا أن شاعرة وأكاديمية مصرية مقيمة في كندا تدعى إيمان مرسال اشترت رواية عنايات الوحيدة «الحب والصمت» بجنيه من سور الأزبكية، وبعد عقدين من الزمن بدأت رحلة تتبع بها أثر هذه الروائية المغمورة، فتواصلت إيمان لتجميع قطع بازل حياة عنايات بصديقتها الحميمة وجارتها التي درست معها في المدرسة الألمانية الممثلة المشهورة ناديا لطفي، حيث حصلت منها على وثائق وصور ومراسلات بخط عنايات، كانت علامات على طريق رحلتها للوصول إلى ما حدث لهذه الروائية، كما تواصلت مع عظيمة الأخت الصغرى لعنايات ومع الجيران القدامى في كتابة استقصائية مثيرة للإعجاب كانت حصيلتها كتاب «في أثر عنايات الزيات» الذي نالت عليه سنة 2021 جائزة الشيخ زايد للآداب وترجم إلى لغات عدة، ومن كتابها نُسقط فرضية أن عنايات الزيات انتحرت لأن الدار القومية رفضت نشر روايتها التي نشرت بعد أربع سنوات من وفاتها، ثم اقتبست في فيلم سنة 1973 بطولة نيلي ونور الشريف إخراج عبد الرحمن الشريف، فعنايات كانت امرأة تتعالج عند طبيب نفسي من الاكتئاب، عاشت حياة زوجية فاشلة، وتطلقت بعد مشاقّ كثيرة، وحتى لما تطلقت كانت مهددة بفقدان حضانة ابنها الوحيد، وفي الرسالة التي تركتها بعد انتحارها لم يكن فيها ذكر لروايتها، بل طلبت فيها السماح من ابنها الصغير لأنها لم تعد تتحمل الحياة القاسية. وقد لحقها الظلم حتى بعد مماتها حين أحرقت عائلتها أرشيفها بما فيه مسودة رواية ثانية حول المستشرق الألماني كايمر المختص في المصريات، بعد أن تعرفت على آثاره لما كانت مسؤولة عن أرشيفه في المعهد الألماني للآثار، كما احرقت العائلة يومياتها ورسائلها أيضا. ولعل ما يفاجئنا في قصة عنايات الزيات، أن إيمان مرسال توصلت إلى أن روايتها «الحب والصمت» تدخَّلَ فيها البعض وجعل خاتمتها إيجابية مجاراة للتوجه الناصري، الذي كان طاغيا وقتها، بل حتى قبرها لم يسلم من التخريب فكسرت شاهدته لأن حارس المقبرة يريد أن يحول مدفنها إلى غرفة يسكن فيها.
ما بين الهم الجمعي الذي أدى إلى انتحار حياة شرارة، الهم الخاص الذي لأجله أنهت عنايات الزيات حياتها، حكاية امرأتين كانت قسوة الحياة أشد من قدرتهما على الاحتمال، وكل واحدة فيهما قالت في نفسها ما قالته فيرجينيا وولف المنتحرة قبلهما «لست قادرة على المقاومة بعد الآن».

شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية