عندما أقرأ كتابي المفضل «المتخيل» لجون بول سارتر، أحس أن الخيال ذاتي، وأنه جزء لا يتجزأ عن البسيكولوجيا. فما كان أمام هذا الوجودي إلا أن يشرح لتلامذته، في البكلوريا، أن الإدراك والمعرفة والفهم والشعور والذاكرة، جميعها تحتل مناطق غامضة من الذات الإنسانية. فكان الاهتمام بالصورة، التي زلزلت العالم اليوم، منبعا يفيض حيوية ونشاطا، فمهما اشتد حبل الإبهام والغموض من حولها، عنت لنا أشياء جديدة تزيد من تعلقنا بأهداب هذا المتخيل الفاني.
ففي سنة 1927 دشن سارتر مساره العلمي، ووضعه على المحك، من خلال بحثه لنيل دبلوم الدراسات العليا في موضوع «الصورة في علم النفس»، الذي حدد فيه العلاقة التي تربط بين الشعور والصور الذهنية. فالإحالة والتأويل عنصران يشتغل بهما العقل الباطني عند الإنسان، فاستحداث التمثيل الذهني لا بد أن يعود إلى مرجع مادي لا إلى معنى يحيط به الوجود. بهذا كان سارتر من السباقين إلى عقد قران بين التفكير والصورة الذهنية، وجعل من القدرات، التي يتمتع بها الانسان، محط تأمل.
فـ»الخيال» عنوان كتاب صغير ألفه سارتر سنة 1936، ولم يعرف طريقه إلى القراء إلا بعد مرور أربع سنوات بعد ذلك، غير أن التفكير السارتري تأثر كثيرا بفلاسفة سبقوه إلى إزالة أطودة الجليد، التي تراكمت على الفكر النفسي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وفي مقدمتهم نجد الفيلسوف هنري برجسون. بما هو أعطى أهمية قصوى للتجربة الملموسة والحدس، ليشكلا في ما بعد دعامته الأساسية في وضع أسس اشتغال علم النفس والخيال. فالدور الذي قام به هذا الفيلسوف هو منح سارتر التذوق الفلسفي للأشياء، التي تسكن الوعي، من خلال كتابه «المادة والذاكرة»، الذي ألفه نهاية القرن التاسع عشر، وبالضبط سنة 1897.
بركسون من منظور جون بول سارتر بمثابة الفيء والأشنة والغياض، الذي تمتح فيها أهم نظرياته المعرفية حول الخيال والمتخيل، وأن الفكر الفرنسي ما زال مدين له، إلى حدود الثلاثينيات، من القرن الماضي. ومن هذا المنظور المعرفي المحض، يرى سارتر أن الخيال هو عبارة عن تحليل مفصل للمتناقضات التي يعج بها الفكر الفلسفي، وبالتالي فهو ينقلب على الخط الذي رسمه بركسون أو الذي رسمه الحس البركسوني. بالموازاة مع ذلك، فإن النظرة الفلسفية لبركسون، حسب سارتر، تأسست من خلال الكتاب ـ المنعطف، الذي عنونه بـ»الضحك»؛ كتاب في دلالات الهزل. ظهر هذا الأخير في فاتح مايو/ايار سنة 1900، وأعيد طبعه سنة بعد ذلك. ففي تقديم الكتاب سنة 1924، قال بركسون إن الضحك يكون نتيجة وضعيات تتسم بالهزل والفكاهة، كما أنه ـ أي الضحك ـ يعتبر عقابا من المجتمع، يطبق على الذين تناسوا زهو الحياة وطيبها. فلولا التخييل ما تمكنا من إنشاء تصورات حول الوظيفة التي يقوم بها الهزل، ومن ثم كان منطلق التعبير الجمالي، الذي يطفح جمالا وأناقة.
فعندما نقرأ لسارتر، إذن، نحس أننا نقاوم السلطة والاستعمار معا، بما هما وجهان لعملة واحدة، يتعايش معهما وبهما الإنسان على مدى وجوده في هذه الحياة. ففعل الاختراق الزمني، لهذين المكونين، حاضر جعل لسارتر منظارا جديدا يرى فيه وجوده ووجود الآخرين من حوله
لعل الهزل والضحك، حسب جون بول سارتر، كان عنوانا كبيرا للحضارة، التي ينعم بها الغرب، جراء السياسات الاستعمارية التي كان ينتهجها، وشن حروب إعلامية غنية تضع الإنسان على المحك. فكانت الفرجة إحدى العلامات المميزة للتقدم والتميز الحضاري، من خلال الحضور المكثف للمسرح، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس؛ مسرحيات شكسبير على سبيل المثال. فكتاب «الضحك» لبركسون يقتفي أثر السلوكيات الصادرة عن الإنسان، التي تبعث على استغلال الفرص من أجل الترويح عن النفس. فسقوط الرجل، أمام أعين الناس، مثير للضحك، لأنه كان إجباريا وليس فيه أي اختيار.
فالنقطة المثيرة للضحك أن هذا الرجل أُقعد على الرغم منه جراء السقطة، التي تعرض لها. فبركسون يعتبر أن التكرار التلقائي والعفوي يكون باعثا على الضحك. فاللقاء الأول مع صديق، مثلا، طال به الأمد في الفراق لا يكون مصدرا للفكاهة، بيد أنه إذا تكرر العمل بصفة عفوية يكون كذلك. فمن هذا المنطلق يعرف بركسون الكوميديا بصفة عامة أنها «عبارة عن تقليد للحياة»، أو عبارة عن فانوس يخبو ضوؤه كلما ابتعدنا عن مرحلة الطفولة في اتجاه الكهولة فما فوق.
إن الخيط الناظم ما بين هذين العملاقين هو إصرارهما الدؤوب على ممارسة الحياة بكل تجلياتها، فالعشق والحب لم يفارقهما أبدا، فجون بول سارتر تعلق بسيمون دي بوفوار، من خلال عملها المضني والشاق في سبيل اكتشاف المعارف، وما تقدمه للإنسانية إلى درجة أن اسمها ارتبط باسم الحيوان «كاستور»، الذي يرمز إلى العمل والطاقة. بينما هنري بركسون ارتبط بلويس نومبيرك، الذي تفنن في وصفه في كثير من أعماله. يبدو أن أشخاصا كثرا لعبوا أدوارا مهمة في حياة سارتر، ولهم الأثر البليغ في مساره العلمي، فإلى جانب هنري بركسون، كما سبق أن تعرضنا إليه، نجد كتابا وفلاسفة وروائيين آخرين بصموا حياته العلمية والأدبية، وفي مقدمتهم بول نيزان، ومريس مارلو، والروائي ألبير كامو. إن الفعل الحقيقي والوجودي عند جون بول سارتر لا يتحقق إلا بحب العمل، والسعي نحو تحقيقه، بهذا المعطى كان سارتر من بين الذين باعوا جريدة «التحرير» في شوارع باريس، بهدف الدعاية، ونشر حب القراءة في المقاهي والأماكن العمومية.
فعندما نقرأ لسارتر، إذن، نحس أننا نقاوم السلطة والاستعمار معا، بما هما وجهان لعملة واحدة، يتعايش معهما وبهما الإنسان على مدى وجوده في هذه الحياة. ففعل الاختراق الزمني، لهذين المكونين، حاضر جعل لسارتر منظارا جديدا يرى فيه وجوده ووجود الآخرين من حوله؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا في ظل هذا الصراع، الذي دب في كل أنحاء المعمورة. بيد أن ما كانت تعانيه فرنسا جراء احتلال ألماني قاهر، تحول بفعل المفكرين والفلاسفة والروائيين، وبسند روحي لديغول، إلى ملحمة نصر آت وواعد؛ لمعانقة الحرية.
كاتب مغربي
ما من تأثير علمي لكامو على سارتر، فهو على النقيض منه تماما فيما يتعلق بمفهوم الإلتزام، ما أدى إلى القطيعة بينهما، سارتر سار على درب الأيديولوجية المادية، في حين يرى البير كامو أن الكاتب لا بد له أن يتحرر من أي قيود أيديولوجية، الكتابة عند كامو باعتبارها موضوعا للغياب، وهي التي يسميها بارت بالكتابة البيضاء، أو الدرجة الصفر للكتابة.