عندما يتمرد النص على التجنيس

حجم الخط
2

تعود مسألة النقاش الأجناسي إلى دائرة الانشغال النقدي، في تزامن مع ظهور حالات نصية، تأتي خارج الميثاق الأجناسي المتعاقد عليه ضمن نظرية الأجناس الأدبية. تظهر بين الفينة والأخرى نصوص خالية من أي تصنيف أجناسي.
مثلما وجدنا مع نص «القاهرة تبوح بأسرارها» (2000) للأديب المغربي «عبد الكريم غلاب»، والذي جعل مجموعة من النقاد المغاربة (رشيد بنحدو، حسن بحراوي، عبد العالي بوطيب) يختلفون في تجنيس عمله السردي بين سيرة ذاتية (رشيد بنحدو، حسن بحراوي)، ورحلة دراسية (عبد العالي بوطيب)، إلى جانب نصوص تأتي مترددة في هوية التجنيس، حين تمزج بين نوعين سرديين مثل السيرة الروائية» أو رواية سيرذاتية «مثل نص» غرفة أبي «(2013) للكاتب اللبناني» عبده وازن»، أو تحمل في ذات الوقت أكثر من تجنيس (سيرة ذاتية روائية ـ الكتاب الأول) مثلما نجد في نص الكاتب التونسي «محمد الباردي» «حنة» 2010، أو خضوع نفس النص لتجنيسين مختلفين مثلما نجد في بعض النصوص التي عندما تتم ترجمتها، تغادر تجنيسها الأصلي، وتأخذ وصفا جديدا مع الترجمة.
مثلما حدث مع النص المكتوب بالفرنسية « عاشقة الريف»(2004) للكاتبة المغربية «نفيسة السباعي» والذي عند ترجمته إلى العربية سيتغير عنوانه «نساء في الصمت»(2006)، وينتقل من تجنيس رواية إلى سيرة روائية على الغلاف، ثم رواية داخل الكتاب. ان خلو النص من أي تحديد، وتجنيس النص بأكثر من جنس أدبي، ثم خضوع نفس النص لتحديدين مختلفين، قضية أدبية تختزل مفهوم الجنس الأدبي، وعلاقته بمتغيرات نظام ترتيب النص، وكذا نشاط حركة النقد. وبالعودة إلى الأعمال الأدبية التي أسست انظمة جديدة في الكتابة، وساهمت في نشوء أشكال تعبيرية جديدة، نلاحظ انها جاءت خارج التحديد الأجناسي المألوف، أو عبرت عن عدم ارتباطها بالنظام السائد، بعدم إعلان التجنيس المألوف على غلافها. نتذكر هنا، «حديث عيسى بن هشام» (1907) لـ» محمد المويلحي»(1858-1930)، والذي جاء بدون تحديد أجناسي، لكونه جاء خارج الشكل السردي السائد انذاك في الثقافة العربية، واعتُبر حلقة وصل بين الأشكال السردية العربية القديمة، والأشكال السردية الحديثة. كما نستحضر نص» حدث أبوهريرة قال»(1939) للكاتب التونسي «محمود المسعدي» (1911-2005) الذي أعرض عن تجنيس عمله الأدبي، لكونه كان يدرك انه يكتب شكلا مختلفا عن المعهود.
والعملان معا، بشكلهما الجديد في الكتابة، وخروجهما عن المألوف في نظام الكتابة السائد، فقد كانا يُعبران عن رؤية جديدة للعالم. كما ان خلوهما من التجنيس، دفع بالنقد إلى الاشتغال على الجديد الذي يحمله نظام الكتابة، والبحث في المعايير التكوينية والدلالية والفنية والجمالية التي تحدد موقعهما داخل نظرية الأجناس الأدبية. ويعبَر النقاش الذي ساد حولهما، وكذا الدراسات التي اجتهدت في سبيل تحديد هويتهما، والجدال النقدي الذي رافق ظهورهما، وما يزال، تعبيرا معرفيا عن تأسيس مرحلة جديدة في الكتابة الأدبية، ذلك لان تطور الشكل الأدبي هو تطور للأدب وقراءته. عندما يتمرد النص عن تجنيسه، ويأتي بدون تحديد مسبق، فالأمر لا يعني فقرا في تحديد الهوية، أو إكراها وصفيا حدث لصاحب النص، أو ناشره، مادامت بعض دور النشر تُجيز لنفسها تجنيس النص، أو عبارة عن لامبالاة الكاتب، أو الغاية منه توريط القارئ في سؤال بحث، قد لا يُحسن السير فيه، انما المسألة ذات علاقة بوضعية الجنس الأدبي، والذي يُساير تحولات نظام الكتابة.كما يحرر هذا النموذج من الكتابة النقد، حين يترك أمامه مساحة من الحرية، ليفكر خارج المؤسسة النقدية المألوفة. لا يقوم الجنس الأدبي على معيار ثابت، انه في علاقة بنيوية دائمة مع تجدد السياقات، وتغير شكل الكتابة. ولهذا، فالجنس الأدبي يختلف من مجتمع إلى آخر، انه حالة ثقافية، تعبر عن رؤية للعالم. نلتقي ـ في مستوى آخر- بنموذج مختلف عن تمرد النص عن تحديد هويته، أو بتعبير آخر، تشكَل النص بصيغة تجعله خارج المألوف، حتى وان جاء بتصريح لهويته، وهذا النموذج بدانا نلتقي به مع تجارب نصية متعددة، تتداخل فيها الأبنية والأشكال الأدبية، ويجتهد أصحابها بإعطائها تأويلات أجناسية، ضمانا لقراءتها، وهي أيضا ظاهرة لا تعد جديدة، انما تدخل في إطار تحولات نظام الأدب، من خلال ترتيب جديد لعناصره، ويحدث مثل هذا التحول، كلما عاش الأدب في مجتمع، أو سياق ثقافي انتقالات في شكله، في علاقة بتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية.
وعندما نعيد قراءة نصوص من الذاكرة الأدبية، بعين النقد الحديث، نسجل ملاحظات على بعض النصوص، التي ان بدت في زمنها مُخلصة للتجنيس المألوف، فانها اليوم تبدو أكثر انزياحا عن معايير الجنس الأدبي الذي صُنَفت من خلاله. أستحضر هنا، تجربة مجموعة قصصية لكاتبة مغربية، أصدرت في عقد من الزمن (1969-1979) ثلاث مجموعات قصصية (رجل وامرأة (1969)، تحت القنطرة (1976)، ريح السموم (1979)، ثم تلاشت في الصمت، حين توقفت عن الكتابة. غير ان إعادة النظر في طبيعة تركيبة نصوصها، تشهد ان «رفيقة الطبيعة» أو «زينب فهمي» كانت من المؤسسين لثقافة الكتابة الأدبية بالمغرب، مع بداية الاستقلال. وأعني بالثقافة هنا، خلق تقليد لممارسة التعبير الرمزي من جهة، ومن جهة ثانية شكلت كتابتها السردية حالة أدبية جديدة، نشير إلى بعض خصائصها، في احتواء القصة القصيرة الواحدة لقصص سابقة في نفس المجموعة. ظهرت هذه الخاصية في مجموعتها القصصية «رجل وامرأة» ( 1969)، والتي تميزت بالتفاوت من حيث تطور الحدث، وتركيب بنائه، ومنطق سرده. انعكس هذا الوضع على وجود اختلافات بنيوية بين قصص «رجل وامرأة». فهناك قصص حافظت على وحدتها النصية، فجاءت مكتملة البناء السردي، مستقلة الحكاية، محافظة على حسن التخلص من العقدة، أو ما يسمى بتلاشي الحكاية، فيما قصص أخرى جاءت بنظام مختلف في البناء، والتركيب، ومن ثم في هوية النص. جاءت تحمل معها ذاكرة نصوص سابقة، وفي ذات الوقت حاملة لمؤشرات نصوص لاحقة في نفس المجموعة، تتميز بشكل تصاعدي يعطينا الإحساس كاننا أمام انبثاق رواية.
عندما نقرأ مثلا قصة «رجل وامرأة» نشعر كانها ذاكرة لقصص سابقة عنها، مثل قصة «عقدة الليل»، و»أمطار» و»من يرفض الحرية». كما ان قصة» قدمان غريبتان « تعد امتدادا سرديا لقصة «قتل طفلة جميلة». كما تميزت القصة لدى رفيقة الطبيعة، بالاهتمام الكبير بالوصف، وتحليل وضعيات الشخصيات، وإدخال الحوار عنصرا سرديا في القصة، والتركيز على ملفوظات المتكلمين. إذا كانت بعض النصوص داخل «رجل وامرأة» قد احترمت معايير القصة القصيرة، فان الأخرى تمردت عليها نصيا، وفنيا، وشكَلت بذلك انزياحا عن المجموعة. ولذلك، نقترح بعض الأسئلة في هذا الصدد: لو استمرت المبدعة رفيقة الطبيعة في الكتابة، ولم تتوقف، أكان لهذا الشكل في الكتابة ان يتطور، وينتج تراكما، يحدد هويته الأجناسية؟ وهل رفيقة الطبيعة من خلال تركيبة هذه القصص كانت تعبر عن كونها تتجه نحو الرواية؟ ألا يمكن ان نستثمر مثل هذه النصوص القصصية، وغيرها في إعادة قراءة عملية تجنيس النص الأدبي؟.
عندما يخفت صوت النقد، ويتحوَل إلى مجرد قراءة وصفية، ويستعصي عليه التنقل بين الطبقات النصية للعمل الأدبي، و يعجز عن الإصغاء البليغ لجديد النص،ويكتفي بإعادة انتاج نفس القراءة المُسْتهلكة، فانه يُقبر النص، و يعطَل إمكانية تأويل العالم والوجود.
كاتبة مغربية

زهور كرام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عادل الاسطة نابلس جامعة النجاح:

    في 1997كتبت نصا عنوانه (خربشات ضمير المخاطب)،وهو موجود على ديوان العرب،وموقع جامعة النجاح،وحتى اللحظة لم انشره،وانا لم اصنفه.كتبت “نص”،ومن قبل كتبت نصا عنوانه(ليل الضفة الطويل).وهو منشور على موقع جامعة النجاح.ولانني ناقد لا اخوض في الكتابة عما اكتب نثرا.الان يعد احد طلابي رسالة ماجستير عن اعمال الكاتب سلمان ناطور،وهي كتابة سردية ،وكتابتك ستهمه.تحياتي

  2. يقول S.S.Abdullah:

    في المقالات السابقة مدحتك ولكن هنا أنا اختلف معك يا زهور كرام، فالحياد لأجل الحياد شيء خاطئ من وجهة نظري، ومن هذه الزاوية أنا اختلف مع عنوانك. أما بالنسبة لمحتوى المقال فهو مشابه لما نشره صلاح بوسريف في جريدة القدس العربي، وأنقل ما رددت به عليه وقتها:
    رائع ما جمعته يا صلاح بوسريف لتوضيح مفهومك أنت للمثقف الذي ترفضه، لخصه عنوانك الرائع (“الصَّوت والصَّدى” أو الببغائية بمعنى آخر) ولكي يتجاوزه، عليه أن يكون مختلف أولا، لإبراز الـ أنا وفرادتها عن الآخرين.
    أي بمعنى آخر الاختلاف للاختلاف، أو الشّك لأجل الشّك، أو خلق أضداد وعمل صراع بينهما لتكوين الصراع بين الأضداد، حتى تخرج بخلاصة أو نتائج انتخابات (ديمقراطية/ديكتاتورية)، حيث هذا هو اساس الفلسفة أو ثقافة الـ أنا ( خيال الفكر).
    واقع الكرة الأرضية يقول أنَّ الحكمة تواجدها أكثر في شرق الكرة الأرضية، في حين الفلسفة تواجدها أكثر في غرب الكرة الأرضية، ومن وجهة نظري ما يختلف به أهل الحكمة، عن أهل الفلسفة، هو أنَّ أهل الحكمة يعتمدون مبدأ أنَّ الحاجة أمُّ الاختراع، أي بمعنى آخر، أنَّ علمه مُسخّر لحاجة الناس، أو الآخر، أو بمعنى آخر، هو المعنى الحقيقي لثقافة الـ نحن، أو لغة التواصل، ما بين الـ أنا والآخر، في تكامل رائع، ما بين طرفين، لإظهار مفهوم (واقع اللغة).
    فأيُّهم أكثر فائدة للمجتمع في تلك الحالة (خيال الفكر) أم (واقع اللغة)؟!
    أنا وجدت أنَّ العولمة، بسبب أدواتها التقنيّة، أعطت للغة، مكانة، واحترام لخصوصية كل لغة، عن لغة على حدة، لم تكن متوفرة لها سابقا، من خلال اعتماد اسلوب التوطين (التعريب في حالة العربية لتجاوزها حدود سايكس وبيكو) في الترجمة.
    وأنا لاحظت من خلال خبرتي، الناتجة من حواراتي مع لغة أهل الشَّابِكة (الانترنت)، أنَّ الفلسفة، التي لا تحترم اللغة، وخصوصية كل لغة على حدة، وهيكلها ومعنى المعاني في قواميسها، لا يمكن أن تؤدي، إلاّ إلى الفوضى الخلّاقة، فهل هذا ما تبحث عنه يا صلاح بوسريف أنت وبقية المغاربة من المتأثرين بالغرب عموما؟!
    فالإبداع شيء رائع يهم الجميع، أمّا الابتداع لغرض اثبات أنّه مختلف، فلا قيمة له خارج الـ أنا الخاصة به، فجذر بَدِعَ شيء، وجذر بَدَعَ شيء آخر، ومن لا يستطيع التمييز بينهما، لديه ضبابيّة لغوية، إن لم يزد الطين بلّة، عندما يكون مصحوب بجهل لغوي.
    وهناك تفاصيل كثيرة لو أحببت التفصيل في هذا المجال تجده فيما جمعته تحت العناوين التالية
    “اللغة والفكر، ما بين الإصلاح والإفساد، وما بين الـ نحن والـ أنا”
    “اللغة والفكر، ما بين الحكمة والفلسفة، وما بين الرأي والفضفضة”
    “اللغة والفكر والترجمة”
    “مصائب المثقف لجهله الفرق ما بين النقد وجلد الذات”
    “ناقل الكفر ليس بكافر، ولكنّه مثقف ببغائي، ومسبب للفتن، لماذا؟”
    ما رأيكم دام فضلكم؟

إشترك في قائمتنا البريدية