كأني برئيس السلطة التنفيذية في العراق يقول لمن في مكتبه ‘ياحاجب أعطه عشرة الاف دولار وأجزل له العطاء ان أجزل فينا المديح، واضرب عنق كل من تسول له نفسه أن يعلن أنا قد حولنا الحرب من التخوم الى مدن وقرى وحارات وأزقة الوطن’.
نعم لقد تحولت العطايا من الدرهم الى الدولار، وشاعر البلاط لم يعد كافيا كي ينفخ أوداج الطاغية، فبات من الضروري اقامة المهرجانات الفنية والثقافية في العراق، تصرف فيها ملايين الدولارات مخصوم منها النصف، حصة لجيوب الفاسدين من المسؤولين والاتباع، كي يقال بأن الوطن يعيش في سلام وأن الديمقراطية ترفرف راياتها على الجميع، وأن من يتصدرون المشهد رجال دولة، بينما ينام ويصحو شعبه على أصوات التفجيرات والقتل العشوائي، الذي لم تستطع كل الخطط الامنية واللجان الوزارية الحد منها. يؤمن المالكي بأن المأساة يمكن سترها بالمهرجانات المقامة على أرض العراق ومؤتمرات القمة العربية، ومباحثات الخمسة زائد واحد من أجل الحليفة ايران، والمؤتمرات الاسلامية من أجل التقريب بين المذاهب، على الرغم من أنه طائفي حتى النخاع، واستضافة مؤتمرات الوزراء العرب والمنظمات الاقليمية.
كما يؤمن ايمانا مطلقا بأن للقلم والبندقية فوهة واحدة في قمع الشعب، لذلك استوزر وزير الثقافة لوزارة الدفاع، فخرج علينا هذا الاخير يتحدث عن الشعر وازدهار الثقافة في العراق الجديد، أمام وفود مؤتمر بغداد عاصمة الثقافة العربية، بينما قتلت قواته أكثر من خمسين مواطنا بريئا خلال دقائق في مجزرة الحويجة، التي كان القتل فيها مخططا له ومع سبق الاصرار. وكي تكتمل صورة الديمقراطية الناشئة في العراق، كما يسمونها، وتتعزز مسيرة الانجازات الدموية التي حققها الطاغية في كل المجالات كي يتأهل مرة ثالثة للفوز برئاسة الوزراء، وفي سبيل وحدة الهدف بين البندقية والقلم خدمة للاهداف العليا للعملية السياسية، صدر قرارحضر والغاء تراخيص عشر قنوات فضائية عاملة في العراق، بسبب تقاريرها التي تحدثت عن مجزرة الحويجة وتغطيتها للحدث بطريقة تدفع للتموضع الطائفي، حسبما جاء في حيثيات القرار. لكن صانع هذا القرار ينسى أن العملية السياسية تجري في شراينها الطائفية، وأن كل الاحزاب في المشهد السياسي تعيش في جلباب طائفي، وأن جميع هياكل الدولة الرئيسية تشريعية وتنفيذية وقضائية يلزم فيها التمثيل الثلاثي على مستوى صناع القرار، نزولا الى الحلقات الادنى في سلم المسؤولية. لكن صانع هذا القرار نظر الى هذا التمثيل الطائفي والعرقي على أنه منهج سياسي، واستحقاق يجلب الصوت الانتخابي الجاهل والثراء المالي والرهان الدولي والاقليمي، فكان ضرورة، بينما نظر الى تناول مذبحة الحويجة من قبل وسائل الاعلام على أنها مؤامرة تستهدف هذا المنهج لذلك لابد من ردعها.
يقول البعض بأن هيئة الاعلام من الهيئات المستقلة وقراراتها تخضع للضوابط المهنية، في معرض الرد على اتهام للحكومة بالضلوع بصدور هذا القرار. لكن الحقيقة تشير الى أن القرار كان سياسيا بامتياز لأن بعض القنوات المحظورة التي سرى عليها القرار هي ليست مسجلة أصلا في العراق، ولم تتقدم للحصول على ترخيص عمل، فكيف يلغى ترخيصها ويغلق مكتبها، مما يدل على أن جهة سياسية عليا أصدرت القرار لا تعرف من هو المرخص له من غيره، ولم يكن لهيئة الاعلام دور فيه سوى التوقيع عليه حتى بدون التدقيق. واذا كان القتل بالكواتم هو أحد أبرز الظواهر التي سادت المجتمع العراقي في العهد المالكي الاول والثاني، الذي مازل مستمرا وننعم فيه بالفساد والتفجيرات والاجراءات البوليسية اليومية، وأدى الى التخلص من الكثير من الاصوات السياسية الوطنية والاكاديمية والعلمية، التي كانت منافسة قوية للكثيرين من جهلة السياسة والاميين الذين تصدروا المشهد، فإن الاستحقاق الاخر هو وضع الاعلام وكوادره ووسائله المشروعة المرئية والمسموعة والمقروءة أمام خيار أوحد لا ثان له، هو تبني منهج العملية السياسية القائمة والترويج لشخوصها وأحزابها وأجنداتها الدولية والاقليمية كفرض مقدس، والسعي للتثقيف بها على أنها أعلى مراحل الديمقراطية في المنطقة، وأن معاداتها أو نقدها بالقلم الشريف واللسان الحريص والقلب المؤمن بالوطن، هي محاولات تكفيرية ظلامية ماضوية تهدف العودة بالعراق الى الوراء. لذلك لا بد لكوادر الاعلام أن يكون لها قلم كاتم يمارس دورا لا يقل تأثيرا عن الفعل الذي مارسه المسدس الكاتم ومازال حتى الآن، من خلال تزييف الحقائق وصناعة وهم الرخاء والامن للمواطن، واختراع متهمين جاهزين يتم الباسهم كل الجرائم التي هي نتاج الفشل السياسي والامني والاقتصادي والاداري والاجتماعي التي يعانيها المجتمع.
كما مطلوب من القلم الكاتم أن يفبرك نظرية العداء العربي الى التجربة العراقية الجديدة، والمؤامرة القطرية السعودية التركية التي تنتصر للسنة ضد الشيعة، ويهزج ويهلل لواحة الديمقراطية والديمقراطيين فيه. كما لابد أن تكون عدسة الكاميرا التي يستخدمها عمياء لا ترى المذابح التي تقوم بها قوات النخبة التي أمرها بيد الطاغية، ولا تصور الاشلاء والدماء والدمار الذي يعصف بالبلد، ولا تقارير منظمة العفو الدولية وحقوق الانسان ومنظمات الشفافية الدولية، فكل ذلك يسيء الى التجربة النموذج في المنطقة والى الساسة الذين أتوا بالحاضنات الامريكية على ظهور دبابات الغزاة، بل ومن أهم الادوار التي يجب على القلم الكاتم ابرازها هو التركيز على أن طاغية العراق هو رجل المرحلة، وأن قطع الطريق عليه الى رئاسة ثالثة مؤامرة كبرى، لأنها تعني بتر المشروع النهضوي الذي يقوده كما يدعي.
لقد كشفت جريمة الحويجة التي يجب أن لا تمر وتندثر من دون حساب، كما مر غيرها، كشفت سادية النظام الحاكم واصراره الشديد على الايغال في دمائنا في سبيل استمراره في السلطة، وكان دور الاعلام الشريف في فضح تلك الجريمة واضحا جدا ومشرفا أيضا. كما كان تصدر تظاهراتنا السلمية وصلواتنا الموحدة في نشرات الاخبار والمقالات السياسية والتحليلات الاخبارية التي غطت الصحف والفضائيات، قد أعطت صورة حضارية لشعب يريد أن ينهض من جديد، وفرصة لكل المخدوعين للمقارنة بين سلميته وسادية سلطاته، كان هذا النقل الحي لصورتين متناقضتين تماما قد شكل حالة هستيريا لكل أركان النظام الحاكم وفي مقدمتهم الطاغية، الذي لا يمل من تكرار الحديث عن ديمقراطيته وصناديق انتخاباته، فكان لابد من التصدي للاعلام الذي مارس هذا الدور. اننا باختصار شديد أمام حالة جديدة في الوصف لم يعرفها القاموس السياسي سابقا. ففي النظم التي تسمى دكتاتورية يمكن فهم التغول البوليسي ووضع كل المؤسسات في خدمة الزعيم، لكن هل يمكن فهم الطاغية الذي أتى ‘بصناديق الانتخاب’ في ظل عملية ‘ديمقراطية’ يجمع بين يديه مناصب عددها أكثر من أصابع يديه، ومعدل القتل بين صفوف شعبه يبلغ أكثر من عشرة أشخاص يوميا، وتقتل قواته أكثر من خمسين شخصا مسالما بدقائق معدودة ولا يقدم استقالته، كما يحصل في النظم الديمقراطية، التي يستقيل قادتها ان تسببوا بمقتل حيوان؟ فهل يمكن أن نسمي الوضع الشاذ في العراق بأنه ‘ديكتاتورية الديمقراطية’ أم ‘ديمقراطية الديكتاتورية’؟
‘ باحث سياسي عراقي