عندما يعلو الاعتبار الأمني‪…‬ ويستهدف المثقفون

قد لا يصلح الحديث الكلاسيكي عن العلاقة الإشكالية بين المثقف والسلطة واغتراب المثقف عن الناس لتفسير وقراءة الحالة التي واجهتها مؤخرا.
مبدع اردني صديق لا شكوك لدي إطلاقا لا بنصوصه ولا بنواياه وقف محتارا وهو يلاحظ كيف تم شطب طلبه المكتوب من جائزة تحمل إسم أديب فلسطيني مقاوم وشهيد دون اسباب نظامية او ابداعية مما ينتج انطباعا بان الإبعاد حصل فقط لأنه «أردني».
اعرف الرجل جيدا منذ سنوات واشهد بانه «فلسطيني وفي» بالمعنى الوطني اكثر بكثير من كل اقاربي ومن اعرفهم من مدعي تمثيل المكون الفلسطيني في النخبة الاردنية ولا تساورني اية شكوك بان الرجل لا يحتاج لشهادات في الوطنية والإبداع لا مني ولا من غيري في محيط ضفتي نهر الأردن.
يعاني اي مثقف من التصنيفات سواء تلك التي تبتكرها مؤسسات رسمية يديرها بسطاء واصحاب مصالح واجندات منشغلين بالتصدي لأي فكرة نبيلة او فصيحة او هادفة لأنها تعريهم وتكشفهم أو تلك التي تبتدعها مؤسسات اعلامية وثقافية منشغلة بنصوصهم وابداعاتهم.
ليست مفارقة ان الرجل نفسه التي ترفضه لجنة «فلسطينية» لاعتبارات ليست مهنية اطلاقا يتعرض في الاردن لحصار يومي يحاول تضييق الخناق على كل المبدعين وينكرهم ولا يعترف اصلا بوجودهم.
وليست مفارقة انه وغيره من المثقفين يواجهون حربا لا هوادة فيها مرة من ضيقي الأفق ومرة من خصوم الفن والفكر والثقافة وهم ببساطة كثر في معادلة الطبقة السياسية والبيروقراطية والأمنية في الأردن حيث لا إحترام حقيقي لقيم الثقافة ولرموزها إلا ما ندر.
وحيث لا يعرف صاحب القرار بالعادة في عمان وغيرها بان اللغة والأداء والمحصول والعوائد والمكاسب كلها ستكون افضل بالشكل والمضمون لو ساعد بإجبار من حوله على الإصغاء للمثقفين واصحاب الرأي السديد.
لا يدين اي مثقف حقيقي ان لا تعترف به السلطة بل يدينها هي ولا مجال في التاريخ لأي سلطة تسترسل في انكار حاجتها الموضوعية لمثقفين ومفكرين.
الأدوات تصلح لإدارة مراحل مؤقتة لكن التاريخ الحقيقي والمفاصل يصنعها المثقفون لا تفعل المؤسسات الأمنية مع التقدير الشديد لدورها ولا النخب المتكلسة الانتهازية.
الأدوات توصل رسائل واحيانا بصورة سيئة جدا ومشوهه لكن الحاجة دوما مطلوبة لمن يصنع الرسالة ويصوغ الفكرة ويعبر عنها بعيدا عن طموحات الاستيزار والرغبة في بناء فيللا ومسكن وسيارة حديثة الطراز وتكديس الدنانير.
الأدوات تنقل رسائل المفكرين المثقفين وعندما يغيب هؤلاء عن مستويات صناعة القرار تصبح الأدوات هي الحكم والحاكم وهي الرسالة بحد ذاتها فتسحب بالتالي من رصيد اي نظام شعبيا خلافا لأنها تتصدر برسالة سلبية على الأرجح تزداد بشاعتها وقبحها كلما كانت الأداة الناقلة متكلسة او بطيئة الفهم ولا تقرأ التاريخ او الجغرافيا او لديها مصالح.
تصرف الأدوات محسوب تماما على مؤسسة السلطة لكن نصوص ومقترحات المثقفين محسوبة على تنوير الناس.
نقول ذلك ونحن نرصد معاناة مثقفين كبار في الأردن وفلسطين على الأقل.
المؤسسات الثقافية هي نفسها ولا علاقة لها بالاصل والمنبت عندما «تتسيس» او عندما يعلو الاعتبار الأمني التصنيفي على الاعتبار الإبداعي فيها..كلنا في امراض الشخصنة والجهوية والإقليمية والأفق الضيق شرق حول نهر الاردن ولا يختلف ما يجري في عمان مع المثقفين العميقين عن ما يجري في رام الله.
مبدعون كثر يقر بهم العالم في القدس والخليل ونابلس ورام الله حظوا باحترام الآخرين خارج سكة السلطة وجنة اوسلو وجماعتها…بعضهم جوعى وبعضهم يواجه شظف العيش ولا يوجد من يلتفت اليهم.
لا يختلف الأمر في عمان فأصحاب الثقل الثقافي والإبداعي الأهم خارج رعاية وزارة الثقافة ولا أحد يسألهم او يسأل بهم.
أدهشني فنان كبير خاطب رئيس الديوان الملكي مباشرة قائلا: ماذا تعرفون عن الناس وكيف ستواجهون التطرف والإرهاب ونحن مهمشون؟..نحن الذين نعرف الشارع اكثر منكم انتم لا تعرفون شيئا عن الحقيقة، والمواجهة في بعدها الفكري والثقافي مهمتنا الوطنية وانتم تفسدون الأمر لأنكم تحاربون اصحاب الفكر والثقافة وتقلصون ادوارهم وتستعملون نفس ادوات ومدارس المتطرفين والمتخلفين في الإدارة.
اعجبني مثقف آخر في نفس المواجهة قال ما يوحي بان كلمة «خوارج»التي توصف فيها عصابات الإرهاب رسميا تنتمي لنفس المدرسة التي انتجت هؤلاء المجرمين ونخشى ان نتورط في قاموسهم.
اصفق لمثل هذا المنطق والتحليل وأرى أن الجميع ينبغي ان يصغى ويسمع عندما يتحدث المثقفون.
عندما استمع القوم في دوائر القرار لمثقف حقيقي لا علاقة له بالشأن السياسي إلا من بواعثه العميقة فقط، ولد مفهوم «النهضة» في الأردن لكي تسير في ارجاء البلاد اقوى واهم موجة احتفال وطنية بمناسبة عيد الاستقلال السبعين.
عندما كانت السلطة تستمع في الماضي لسياسيين مثقفين من وزن ثقيل كان الارتجال اقل، والأخطاء محصورة، والاستدراك متاح والإدارة نشطة والمبادرات تخلو من الخيال ولا تتعرض للقصف البيروقراطي والحلقات الوسيطة تنشط بصورة افضل ويفهم الرأي العام.
الأداء الرسمي في سلطة رام الله هو نفسه في عمان عندما يعلو الارتجال والعشوائية وتتصدر الشخصنة والأجواء ولا يحترم اصحاب الفكر والثقافة.

٭ إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»

عندما يعلو الاعتبار الأمني‪…‬ ويستهدف المثقفون

بسام البدارين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية