الرئاسيات الأخيرة في الجزائر كرست «نظام حالة طوارئ دائم» لأنها من تنظيم القيادة العليا للجيش، الذي آل على نفسه منذ عقود، التمسك بالسلطة، حتى لو أدى ذلك إلى تقليص السيادة الجزائرية على منطقتي القبائل الكبرى والصغرى وجزائريي الخارج وتجريفه للإرادة الشعبية، صاحبة السيادة وخطفها منه، في شكل قرصنة تمت في عالم افتراضي وهمي، وتلك هي طريقة حكم القيادة العليا للجيش الجزائري.
فما يعرفه الشعب الجزائري عن جيشه يتم عن طريق الشاشة الوطنية الرسمية. واليوم أكثر من أي وقت مضى، لم نعد نرى تقريبا إلا صورة «القايد» وهو يخوض وحده آخر معاركه في الثكنات العسكرية، حيث يعاين الأوضاع، ويتأكد من أي تململ أو نزعة لخلخلة نظام الطاعة. فالصورة التي تقدمها الشاشة الوطنية ليست إطلاقا صحيحة، فلا تخاطب الجماهير ولا تعرّفهم بما يجري حقيقة في البلد، بل تحوّلت القناة التلفزيونية اليتيمة إلى «وزارة الحقيقة»، تقدم لهم في الموعد المقدس نشرة الثامنة فقرات من خطاب الحاكم الفعلي، في مشهد لا يحسد عليه في العالم إلا كوريا الشمالية، ذلك هو الوضع الذي أوصلنا إليه «القايد» وبقايا النظام الآفل.
ما يعرفه الشعب الجزائري عن جيشه يتم عبر الشاشة الوطنية الرسمية ولا نرى من الصور إلا لحظات الاستعراض العسكري، والمناورات والتشكيلات العسكرية، التي تقام بمناسبة الزيارات الرسمية، أو لتنقلات كبار الضباط في النواحي العسكرية، ومشاهد مرتبة لمجموعات من لصوص الحدود تم القبض عليها في حالة تلبس بالحشيش والمخدرات وتهريب السلع. أما باقي مشاهد الجيش في التلفزيون، فتذهب مباشرة إلى عصر الثورة المسلحة (1954-1962) حيث تعرض بعض الصور المكررة لوقائع جيش التحرير. أما كل التاريخ ما بين اللحظة الراهنة وتاريخ الثورة، فلا يوجد ذكر للجيش ولا لمؤسسته، ولهذا السبب بالذات أي عدم قدرته على تأسيس مؤسسة مستقلة عن الأشخاص. فقد كان لتماهي الجيش مع الدولة دوره السلبي جدّا، حال دون إنشاء مؤسسة بهيئاتها المجردة ووظائفها المنزهة عن الاعتبارات الشخصية، وعن السياقات السياسية الظرفية. الأمر الذي حرم الدولة الجزائرية من أهم مؤسسات المرحلة المدنية لتاريخ الجزائر المستقلة. فالمقولة المتداولة اليوم بين الكتّاب والباحثين هي صعوبة، إذا لم نقل انعدام، كتابة تاريخ الجزائر المستقلة، بسبب الغياب الفادح لتاريخ المؤسسة العسكرية. تلك هي الحقيقة المرّة، التي تتعامى عنها بقايا السلطة، وتعاند في تقديم نفسها إلا في شاشة التلفزيون، لاعتقادها أنها الوسيط الذي يقدم الحقيقة.
حقيقة، برز الجيش بغياب مؤسسته وبغيابه عن تقديم نصيبه من النشاط الأمني والعسكري في تنمية البلد، واكتفى بالاستحواذ على مقاليد الحكم، والتحكم بالدولة العميقة، والتصرف في نواتها الحيوية، الأمر الذي أعفاه من كل مهمة وطنية، فله الدولة بكاملها ولا يريد أن يزيد عن ذلك. فلا نعرف خبيرا عسكريا يوضح قضايا الأمن في العالم العربي، والمسائل الاستراتيجية في العالم، بل لا نعرف ماذا جرى في كل الأحداث الأمنية، التي حلّت وعصفت بالبلد، سواء جاءت من الخارج أو بتواطؤ من الداخل. وكل ما نعرفه، إذا ما قرأنا مذكرات بعض العسكريين، أن الجميع يكاد يجمع على خيبة كبرى في هيئة الجيش، الذي لم يحسن تحديد موقعه في الدولة الجزائرية المستقلة، ومن ثم ضاعت على الجزائر ليس مؤسسة الجيش فحسب، بل تجربة عربية وافريقية ترشحها إلى أن تكون بمثابة منطقة «جنوب شرق آسيا» أو»الهند الصينية»، وغيرها من مناطق العالم، التي توفرت فيها حركة تاريخية أهلتها لتنمية لاحقة مزدهرة.
الظهور المبالغ فيه «للقايد» على شاشة التلفزيون، يؤشر إلى نهاية أسطورة الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير، هذه المقولة التي استهلكت في وعي الشعب، من فرط تداولها وترديدها إلى حد الملل والقرف. فالمقولة لا تصادر الدولة فقط، بل تصادر حتى الثورة التحريرية أيضا، لأن هذه الأخيرة لم تكن من صنع الجيش الجزائري كمؤسسة، بل ثورة شعبية لا تنطوي على أي تراتبية أو تنظيم هيكلي عسكري معترف به دوليا، ولا يتحلّى بأي شرعية مؤسساتية، بل كل التدابير والترتيبات لخوض الحرب ضد السلطة الاستعمارية تمت من وحي لحظة الإعداد لها وتسييرها في ما بعد. والثورة في هذا المقام هي لتحرير البلد وهذا ما تم فعلا. بينما مهمة الجيش الوطني الشعبي هو لبناء الدولة المدنية الحديثة، التي تكتفي بذاتها ولذاتها، وتبقى كهياكل وأجهزة ومؤسسات ذات طابع عام تُعْرف بمواطنيها وتُعَرّف بهم أيضا.
كل المقدمات والتمهيدات التي يرتبها «القايد» تنبئ عن مجازفة خطيرة عنوانها الكبير والعريض: سلطة بلا دولة، حكم بلا حكّام، أجهزة بلا شرعية
جيش التحرير الذي حرر الوطن ونال الاستقلال والسيادة، ومن هنا إمكانية كتابة تاريخه وتاريخ الثورة، بل إعادة تقييم ودراسة ومعالجة كل التاريخ الجزائري، إبان الاحتلال، لأن الثورة من خلال ثمارها تساعد على إضفاء الشرعية على ما قبلها برمتها، على تباين واختلاف وتفاوت الفعل السياسي والثقافي والاجتماعي. وهذا ما لم يحدث مع الجيش الوطني الشعبي، الذي صادر واغتصب الصفة الشعبية، خاصة في الثلاثة عقود الأخيرة، حيث صار جهازا محتكرا من قِبَل دوائر ضيقة جدّا امتد إلى أبناء الجنرالات فقط. وعليه، فإن «الشاشة الوطنية» التي تقدم صورة غير حقيقية عن الجيش الوطني الشعبي لأنها تعرض ما هو استعراضي، ومشاهد من المناورات العسكرية، ومشاهد أخرى للجنود وهم في حالة تدريب، ومشاهد لضباط يقَلِّدُون دفعات من المتخرجين، ومشاهد أخرى لوحدات أمنية وهي مصطفة خلف سلع ومواد مهربة على المناطق الحدودية، التي لا توازي حقيقة ماهية هيئة الجيش في الواقع. والحال، أن الصورة النمطية التي تقدمها « وزارة الحقيقة» ليست منافية تماما لما هي عليه هيئة الجيش فحسب، بل مخلة أيضا بقيمة أي جيش في العالم، فأي قيمة لأفراد الجيش وهم تحت رحمة خطاب خاو، يتابعون ببله عظيم جملا بالكاد يفهمون مدلولاتها، وبمشقة أكبر يسجلون ملاحظاتهم. الجميع في حالة وجوم وفي وضع المنفِّذ للأمر، ينتظر فقط الإفراج العام.
إن غياب تاريخ «المؤسسة العسكرية» في جزائر ما بعد الاستقلال، هو الذي ترجم على مستوى النفسي شعور الجزائريين دائما بالتخلف والدونية، حيال البلدان الأخرى، حتى البلدان المجاورة. والحالات النادرة التي تشعر فيها الجماهير الجزائرية بعزة النفس وشرف الانتماء إلى الوطن الأم، عندما يحقق الرياضيون انتصاراتهم في منافسات دولية، يكون فيها الفعل البطولي للرياضة فقط، بعيدا عن «عطالة» الجيش ولا جدواه، وهكذا، وفي التحليل النهائي والمطاف الأخير، يبرز الجيش الجزائري بغياب تاريخه «الوطني»، ويظهر في الأوضاع الاستثنائية والحالات الشاذة يكون هو صانعها، ولعلّ أخطر المنزلقات التي يعدها اليوم هو سعيه إلى إفراغ الحراك من مضمونه التاريخي الذي يجب أن يرتب إنجازه العظيم: دولة مؤسسات القانون والحق وتجاوز نهائي لدولة العسكر. كل المقدمات والتمهيدات التي يرتبها «القايد» تنبئ عن مجازفة خطيرة عنوانها الكبير والعريض: سلطة بلا دولة، حكم بلا حكّام، أجهزة بلا شرعية، لأن إرادة الشعب قد تم دَهْسها والإجْهاز عليها من قِبَل بقايا العصابة وأزْلامها.
في الختام، ولعلّه في البدء، هذه المقالة ليست أبدا محاولة للنيل من الجيش وأجهزته الأمنية، بقدر ما أنها تسلِّط الضوء ولو خافتاً على منطقة غامضة وغير واضحة للناس، لم تنل حظها من الكشف والبيان، وصارت عصية عن الدخول إلى المقررات المدرسية وبرامج التعليم. فعندما يلتفت أحدنا إلى الوراء ثلاثين سنة خلت، فماذا يرى؟ سوف يقرأ بوضوح تام أن العقد الأول منها كان حربا أهلية شرارتها الأولى اغتيال رمز الثورة الجزائرية وأيقونة المعارضة السياسية محمد بوضياف، ثم عقدين آخرين لتأسيس دولة العصابة تحت الرعاية السامية والمتعالية لقيادة الجيش وأجهزته الأمنية. أما قانون المصالحة الوطنية، فهو يقرأ اليوم، حسب شهادات وشواهد الجيش ذاته، مجرد صفقة لتبرئة أجهزة الأمن وخلاياه من جرائم الإبادة وتصفية الإسلاميين. وما كان بعد ذلك من وقف للإرهاب، فلم يكن ذلك ممكنا، إلا بعد ما تأكد للمستثمرين فيه أن مصالح الدولة وأجهزتها ومؤسساتها توفر ما يمكن نهبه وتبديده بشكل شرعي، وبحماية قوانين تسنها العصابة ذاتها. فبعد كل هذا، لماذا يُصِرّ بعضُنا على قراءة الخير وإمكانية الانفراج في الجمهورية المقبلة، بعد كل هذه المقدمات التي تُعْدِم التاريخ ولا تبقي منه ما يمكن أن يصلح للتداول والتعامل.
كاتب وأكاديمي جزائري
مكان الجيش بالثكنات العسكرية أو على الحدود! ليس لهم مكان في السياسة والإقتصاد لأنهم فاشلون بذلك!! الدليل عدم دخولهم الجامعات المدنية لتدني مستواهم العلمي!!! ولا حول ولا قوة الا بالله
كلامك يا كروي مردود عليك الكل يعلم ان الجيش الجزائري شهد نقلة نوعية في السنوات الاخيرة حيث أصبح يلتحق به أصحاب المعدلات الاكبر في البكالوريا كما ان نسبة الحاصلين علي شهادات عليا بعد التحاقهم بالاسلاك الامنية في ازدياد مستمر لتؤكد رغبة الجيش في تحديث مؤسساته اكاديميا وعلميا كما لا يخفي عليك ان الجيوش الحديثة ليست جيوش بنادق بل جيوش التكنولوجيات الحديثة ….. نعم للحقائق لا للاحكام المسبقة
NB : لا حول ولا قوة إلاّ بالله لا تستعمل في الباطل ؟
..يا(عروبتاه كونتري)…وكذلك المشعوذين أصبحوا يتقاطرون على الشعوذة خريجي الجامعات والمعاهد المتخصصة..هل تكذب هذه الحقيقة….لواءات مايسمى الجيش العربي أنصاف متعلمين وغالبيتهم مستوياتهم المرحلة الابتدائية…وهؤلاء اللواءات لايتركون الفرصة بتاتا لمن تسميهم خريجي الجامعات.حيث يتم الاستغناء عنهم بعد وصولهم الخمسين سنة..يفصلون من الخدمة بعد بلوغهم ال50سنة..ويبقى أشباه المتعلمين في قيادة البلاد والعباد ..ألا تدري أن السواد من هؤلاء الجنرالات والموشيرات والجنرالات تتراوح اعمارهم بين الثمانين والتسعين…
تحية للكاتب المحترم. مقالك مفيد جدا ومزعج جدا. مفيد لكل قاريء، ومزعج لمن اختطف السلطة واحتكر الثروة باسم حركة التحرير.
إنه لمن الغريب والمخجل أن يتكلم جنرال باسم الامة، فيقدم التهاني للرييس الجديد ويثني على الناخبين لأنهم ” أحسنوا ” الاختيار.
لا غرابة إذن أن يتظاهر الشعب من أجل استرجاع الكرامة و ” الكلمة “.
تذكروا، حينما كان البلد يغلي بالمتظاهرين، كان قايد الجيش في زيارة لدولة الإمارات العربية المتحدة من اجل …. .
وحينما خرج الناس يطالبون بسقوط النظام، كان رمز آخر من رموزه( رمضان لعمامرة ) في تجمع بجنوب القارة لحشد الدعم ل ” القضية الصحراوية “.
حان الوقت إذن لاسترجاع الشعب ل ” الكلمة ” .
شكرا للكاتب المحترم.
نحن نعشق في الجزائر و في الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير و لا أظنّ أن من يرموننا بالنفور يعيشون بيننا
نحن لا نفهم سبب كل هذا الحقد على الجيش ! أليس الجيش هو العمود الفقري للدول ؟
سننتصر إن شاء الله و لا عزاء للحاقدين
شكرا سيدي على المقال الرائع و اخف ان يتهمك بإحباط معنويات الجيش ، الله يحفظ و يطلق سراح المعتقلين و على رأسهم الرائد الجيش التحرير الوطني السيد لخضر بورقعة 87 سنة !!! ياللعار على النظام العسكري
مقال دقيق يرصد بعمق ملابسات الواقع السياسي في الجزائر الشقيقة. ..ويكشف عن خلفيات التدليس الاستعماري الذي مورس على شعبها. ..لضمان استمرارية وهيمنة فرنسا على الاقتصاد والثقافة ودواليب الحكم في طول البلاد وعرضها. ..وهو يشكل أيضا فضحا لمنظومة الإفك البوخروبية التي دلست على الناس في ذاخل البلاد وخارجها لأجيال طويلة. ..ولازال بعض عرابيها ممن مارسوا مهنة التزييف الإعلامي والاديلوجي…وتمرغوا في نعيم النظام والحزب الواحد…مكاسب ومناصب. ..وتمت الاستعانة بهم في المسرحية الأخيرة. ..رغم بلوغهم من العمر عتيا. …ولكن من شب على شيء شاب عليه. ..كما يقال.
كلمة حق نقولها لله ثم للتاريخ:
ما قدمه الفريق أحمد قايد صالح في هذه الفترة الحرجة من عمر #الجزائر سيكتب بحروف من ذهب وعندما تعرف الأجيال القادمة تفاصيله الدقيقة والخفية ستعرف قيمة الجيش الوطني الشعبي الذي صان الأرض والعرض وحمى الدماء الجزائرية، وتدرك قدر الرجل الذي بذلت العصابة وأذنابها كل ما في وسعها للتخلص منه وتشويه شخصه والطعن بدوره الريادي في انقاذ البلاد..
شخصياً انتقدته على مدار سنوات طويلة ولكنه أثبت عكس ما كنّا نظنه فيه لأنه في الوقت الحاسم أكد أنه من طينة الكبار وتجاوز الانتقادات البشعة والحملات القذرة بهمة صنّاع التاريخ..
شكرا لك أيها القائد على وضع الوطن في سكته الصحيحة فإن غادرت المشهد ستظل محل تقدير وإن كان غير ذلك فستكون محل تبجيل..
أما رئيس الجمهورية فينتظره الكثير وترجمه أقواله الكبيرة في أفعال أكبر..
فاللهم أحفظ الجزائر من كيد الكائدين وتربص المتربصين..
والله القائد كان سيدخل التاريخ لو ترك الأمور تسير لتغيير النظام لكنه اختار أن يدخل مزبلة التاريخ للأسف لأنه مدد لنظام يأبى الذهاب
بارك الله فيكم ايها الكاتب كلام في الصميم
تحيا الجزائر و المجد و الخلود لشهدائنا الأبرار