عندما يواجه وزير الإعلام المصري بعض إعلام بلاده

لعلّه أمر لا يمكن أن يحدث إلا في مصر: وزير الإعلام أسامة هيكل يتعرض إلى «إطلاق نار كثيف» من ذات «الميليشيات الإعلامية» التي تعوّدت على التصويب عادة على «أعداء الوطن».
قد يكون هيكل هو من نكش «عش الدبابير» هذا إذ ليس من السهل أن يأتي وزير إعلام ليقول للصحافيين أن «أخطر أنواع الفســاد هو أن يترك الكاتب قلمه لغيــره، ويكتفي هو بالتوقيع» وأن الجمهور في البلاد لم يعد يتابع ما تكتبه الصحف أو ما تبثه التلفزيونات، حجته في ذلك أن هذا الجمهور الذي تقل أعماره عن 35 ســنة، ويمثلون حوالــى 60 أو 65 بالمائة من المجتمع، لا يقرأون الصحف ولا يشــاهدون التلفزيون.
هذه «الطعنة الغادرة» التي تشبه تقريع وزير دفاع للجيوش أو استخفاف وزير اقتصاد بالمستثمرين استفزت شريحة معينة من الصحافيين المصريين اعتبرت نفسها هي المعنية بالذات بكلام الوزير رغم أنه لم يشر إلى أي كان بالاسم لكن هؤلاء رهط من الصحافيين قادرون سريعا على «تحسس البطحة على رؤوسهم».
وكعادة هؤلاء في كل المعارك التي يخوضونها، فقد عمدوا إلى الطعن في وطنية الوزير واتهامه بخدمة «الإخوان» تلك التهمة الجاهزة للاستعمال الفوري في أي وقت وضد أي كان، حتى وإن كان وزيرا في عهد السيسي. اتهمه أحدهم بأنه «يردد ـ عن قصد أو عن جهل وخيابة ـ الدعاية نفسها الإخوانية بالحرف رغما أن مهام منصبه تحتم عليه أن يواجهها ويتصدى لها لا أن يصبح مجرد بوق يعيد الكلمات نفســها والمصطلحات نفسها والألفاظ نفسها كذلك». وكعادة المزايدين انبرى كذلك من يطالب «بتنحي من لا يتحلى بروح الجماعة عن ممارســة العمل العــام، كون الدولة المصرية لا بد أن تكــون في حالة اصطفاف تام في مواجهة أعــداء الوطن» لأن «مصر في حالة حرب وعلينا أن نصطف خالف القيادة السياسة».
لا أحد يعلم بعد كيف يمكن أن تتطور هذه الحملة ضد وزير الإعلام المصري وما إذا كانت ستؤدي فعلا إلى إبعاده بعد أن عيّر صحافيي بلاده بما كانوا يُــعيّرون به، ليس فقط من قبل المعارضة، بل وأساسا من قبل كل المنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة التي كثيرا ما أعربت بالخصوص عن قلقها من ســيطرة أجهزة المخابرات على عدد من المؤسسات الإعلامية.

الأكيد أن ما يجري هو بالأساس صراع على النفوذ بين قطاعات أمنية متنافسة وبالتالي فنهايته لن تُقرأ سوى على هذا الأساس. لا بقاء هيكل وزيرا يُعد انتصارا للمهنة وأصولها ولا ذهابه يُعد انتصارا لمن هتك أصولها وجعلها محل تندر وسخرية داخل البلاد وخارجها

كلام هيكل القاسي الموجه لبعض الصحافة في بلاده فُهم على أنه صراع على الإعلام بين «جهات سيادية» مختلفة، كما تسمى في مصر، ذلك أن أسوأ ما يواجهه الإعلام هناك لا يتعلق فقط بغياب الحرية والتشنج الدائم ضد أي صوت مختلف، مهما كان، وإنما ارتهانه لأجهزة أمنية ومخابراتية مختلفة وأحيانا متصارعة، مما جعل المراقبين العارفين بحقيقة المشهد الإعلامي في بلاد النيل يصنفون وسائل الإعلام المحلية ليس على أساس خطها التحريري وإنما تبعيتها لهذا الجهاز أو ذاك. أكثر من ذلك صار أغلب المذيعين في جل القنوات مصنفين على هذا الأساس وبات ظهورهم واختفاؤهم بين الفترة والأخرى أمرا لا علاقة له بأي بعد مهني وحرفي بل هو خاضع لتقييمات هذه الأجهزة لـ«أدواتها» اللفظ الذي استعمله الوزير نفسه، وأثار سخط المعنيين به.
صحيح أن غضبة الوزير المصري على الإعلام في بلاده غضبة شخصية صرفة، ردّ بها على ما تعرض له هو من انتقادات، ولم تكن حمية منه على المهنة وأخلاقياتها ولا تنديدا بالمستوى المتهافت والتافه الذي وصل إليه بعض الصحف وأغلب البرامج التلفزيونية وأصحابها، لكنها تظل، رغم كل شيء، أبرز نقد يوجهه مسؤول بهذا المستوى لقطاع استراتيجي له دوره الكبير في محاولة الدفاع عن النظام والتصدي لمعارضيه في الداخل أو الخارج.
لا أحد يدري الآن لمن ستكون الغلبة في هذه المواجهة المفتوحة ولا لمن سينتصر الرئيس السيسي، لو قرر التدخل فيها، لكن الأكيد أن ما يجري هو بالأساس صراع على النفوذ بين قطاعات أمنية متنافسة وبالتالي فنهايته لن تُقرأ سوى على هذا الأساس. لا بقاء هيكل وزيرا يُعد انتصارا للمهنة وأصولها ولا ذهابه يُعد انتصارا لمن هتك أصولها وجعلها محل تندر وسخرية داخل البلاد وخارجها.
تدخل الرئيس المحتمل سيكون حاسما بلا شك، وهو إذ يفعل ذلك فلن يكون الاعتبار الإعلامي وتحسين مستواه المهني والأخلاقي هو همّه، لا الأول ولا الأخير، وإنما نصرته لهذا الجهاز أو ذاك في صراع معقد للغاية لا أحد يدري إلى أين يمكن أن يصل في النهاية.
لم يكن عهد مبارك ورديا في الإعلام لكنه ترك المجال لصراع بين نوعين من الإعلام : واحد مطبل سطحي والآخر نقدي أو مستقل لكن عهد السيسي لم يترك المجال أبدا لأي شيء مختلف فخلت الساحة الصحافية من الأقلام المحترمة والتلفزيون من البرامج الهادفة والمذيعين المقدّرين. هذا الفراغ هو الذي أساء للسيسي كما لم يسأ إليه أحد وهو كذلك الفراغ الذي عرف معارضوه كيف يملؤوه فنغّصوا عليه كل شيء.

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    السؤال الكبير هو:
    هل يصدق المواطن المصري إعلام السيسي, بالرغم من توفر الإعلام الفضائي؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول علي:

    وشهد شاهد من أهلها
    يا حسرتي على مصر، وما خفي كان اعظم……..،

  3. يقول سامح //الأردن:

    *للأسف (مصر) لم تخرج من عنق الزجاجة بعد..
    وعهد المستبد السيسي خربها ع الآخر.
    حسبنا الله ونعم الوكيل.

  4. يقول جمال الدين خنفري:

    الإعلام المصري مبني على التضليل في أساسه .. وفق مصلحة معينة .. بعيدا عن النزعة الوطنية الحقة باختصار فهو إعلام انتهازي أما القول عن الدفاع عن الوطن فهو للتمويه فقط

  5. يقول S.S.Abdullah:

    هل الوضع في العراق مع المليشيات المسلحة، يختلف عن مصر مع مليشيات الإعلام،

    هو أول ما خطر لي عند قراءة ما ورد تحت عنوان (المشهد الإعلامي في مصر.. هل تدور معركة “صلاحيات” داخلية؟) ففضيحة الوضع الإعلامي، لا يختلف عن فضيحة الوضع الأمني،

    عند جميع دول أهل ما بين دجلة والنيل على أرض الواقع بعد 2/8/1990 وزاد الطين بلة بعد 11/9/2001، على الأقل من وجهة نظري،

    حيث تبين لي، لا يمكن إصلاح خدمات دولة الحداثة، بدون تغيير نظام طرح المناقصات لأي مقاولة،

    لمن يرغب في تحسين جودة وكفاءة أي خدمة من خدمات الدولة على أرض الواقع،

    فوسيلة فساد أهل المال السياسي، هي هذه المعلومة، التي تستغلها اللجان الاقتصادية للأحزاب، المسؤولة عن أي وزارة أو محافظة، أو وقف من أوقاف (الوقف الإسلامي)،

    إن كان في الكيان الصهيوني، بعد 1947، أو أي دولة ملكية أو جمهورية، حق التأميم/السرقة، ومن ثم تهجير من يعترض بحجة أنه ارهابي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فما الحل إذن؟!

    نحن في مشروع صالح التايواني، نعرض سوق صالح الحلال (أي بلا غش في المواصفات، ولا فساد في الإتفاق مجاملة/شفاعة لفلان على حساب علان).??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية