أقل ما يمكن أن يقال في ردود الفعل السعودية على راب “بنت مكة” إنها تمثل فصاماً حقيقياً بين واقع حال المدينة وسكانها وبين تلك الادعاءات، التي تريد أن ترمي بعباءة القداسة، النقاء العرقي، والاستقامة، على كل سكان المدينة، حتى لو بلغ تعدادهم أكثر من مليون ونصف المليون نسمة.
هو فصام على الأقل بعد حفلات شهدتها المملكة غنى فيها سعد المجرد وسواه من نجوم ونجمات العالم الأشهر، فهل تنتظر المملكة أن يسير الترفيه في سكة مستقلة تماما عن الشارع، من دون أن يترك أي أثر فيه؟! هذا بالطبع إذا افترضنا أن الغناء والرقص والطرب بمختلف أشكاله مستجد على المدينة، وهذا غير ممكن، فلا شك أن للمدينة، مكة أو سواها، حياة أخرى حتى في ظل أعتى هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما يستحيل أن يكون راب “بنت مكة” ظاهرة مستجدة، ولعله رشح عن عالم أوسع قد يحمل في طياته ما هو أخطر بكثير من هذا الراب، الذي يبدو الأكثر تهذيباً، كلاماً ورقصاً وتحجّباً.
لكن حقاً، ما الذي استفز السعوديين في هذا الراب خصوصاً، بعد كل المفاسد والغسيل الذي نشر من قبل على سطوح الأدب والفن والأغاني، بعد كل الجرائم التي نسمع عنها هنا وهناك في أنحاء المملكة، تماماً كما يحدث لدى كل شعوب الأرض، بعد كل انتهاكات حقوق الإنسان ومختلف الحريات..؟
التعليقات والتغريدات بدت أولاً مستنفرة تجاه انتهاك قدسية المدينة، فمع أن المغنية الرئيسة محجبة ولم تظهر على نحو خلاعي، ومع أن الفيديو لا يحمل إيحاءات جنسية، على نحو ما تمتلئ عادة كليبات وأغاني راب مماثلة، إلا أنه، على ما يبدو، سيظل ممنوعاً على ابن مكة وابنتها أن يظهرا إلا بلباس الإحرام، بنت مكة لا تعرف الأكل والشرب والرياضة والتمايل طرباً كسائر الناس!
انظروا إذاً إلى “الهوية” الحقيقية لمن يدّعون أنهم أبناء مكة والحجاز. إنهم أولئك الذين إن غنت بنت سمراء وقالت إنها ابنة المدينة أنكروها، قالوا، من دون فحص أو تدقيق، إنها من الجاليات الأفريقية الدخيلة على مكة، ولا بد من ترحيلها. أو أنها من “بقايا الحجاج”
لكن العامل الذي بدا مستفزاً أكثر للسعوديين، كما تعكس التعليقات، هو ما اعتبر هوية بنت مكة، أو هوية لبنت الحجاز، وهذا ما يعكسه خصوصاً الهاشتاغ الأكثر تداولاً: “لستن بنات مكة”، إلى هاشتاغات أخرى من قبيل “هوية السعودية خط أحمر”.
تقول البنت، المغنية: “أنا بنت مكة. أصيلة وعشانها تشقى (تتعب). وقت الشدة ما نتكى (لا تكثر متطلباتنا). يشدّ بي الظهر، تلاقيني على الدكة ( مقعد مرتفع). فل وكادي الشعر مسقى”. لم تشأ البنت احتكار تمثيل بنات مكة، كما لم تقل بحقهن كلاماً مشيناً، لكن على ما يبدو كان كافياً أن تظهر فتاة سمراء، بملامح أفريقية، تقول إنها ابنة مكة حتى تستفز أمير المدينة شخصياً فيأمر بمحاكمة كل من له علاقة بإنتاج الفيديو.
انظروا إذاً إلى “الهوية” الحقيقية لمن يدّعون أنهم أبناء مكة والحجاز. إنهم أولئك الذين إن غنت بنت سمراء وقالت إنها ابنة المدينة أنكروها، قالوا، من دون فحص أو تدقيق، إنها من الجاليات الأفريقية الدخيلة على مكة، ولا بد من ترحيلها. أو أنها من “بقايا الحجاج” (انظروا الاحتقار حتى لمؤدّي فريضة دينية)! أبناء مكة والحجاز، المزعومون بالطبع، عنصريون، وقحون، غير متسامحين حتى مع أغنية، لكن من قال إن بإمكان هؤلاء احتكار هوية أبناء مكة، ولماذا لم نسمع سوى أصوات رجالية تدافع وتندد وتسخر وتطالب بالمحاكمة والترحيل؟ أين هن بنات مكة، ولماذا لا يسمح لهن بأن يدلين بآرائهن، وإظهار هوياتهن!
توتة لماريا معلوف
لو خيّرت أن أمنح التوتة الذهبية لأسوأ تغريدة حول راب “بنت مكة” لمنحتها من دون تردد للإعلامية اللبنانية ماريا معلوف، إذ تقول: “بنت مكة هي الفتاة الملتزمة الراقية السعودية الأصيلة وأي أغنية هزلية من هنا أو هناك عبر يوتيوب أو غيره يجب أن ترتقي إلى المكان وهيبة الإنسان وقدسية الإسلام”.
معلوف تطالب بنت مكة بما لا تستطيع هي نفسها تحمّله. إنها تغرد هكذا لأنه مطلوب منها، على ما يبدو، أن تغرد هكذا.
المستبد الهازل
جرت العادة أن يتسلّم نقابة الفنانين في سوريا شخصية اعتبارية، فنان له قيمة ومكانة رفيعة على مستوى المهنة، ويمكن الإشارة هنا إلى اسمين مرّا على كرسي النقيب؛ المغني صباح فخري، والممثل دريد لحام. دعك من اعتبارات الولاء ومشتقاته، فهذه تأتي في طليعة الأولويات. كانت مكانة النقيب المهنية تحفظ شيئاً من الهيبة للمنصب، ولو شكلياً، إلى أن قررت أجهزة النظام المخابراتية أن تتصرف حتى من دون أي اعتبار للشكليات، هكذا نصب مثلاً ممثل أميّ، من دون مكانة تذكر، أقرب إلى الكومبارس منه إلى الممثل، هو الممثل صباح عبيد، والرجل لم يكن يخبئ نفسه، كان لديه من وقاحة الصوت والحضور ما يدفع الجميع لإدراك لمن تعود العصا التي يخبط بها يمنة ويسرة.
لعب الممثل زهير رمضان، من موقع النقيب، أكثر أدواره هزلية. مقابلاته، صوره، قراراته، ردود أفعاله يجب أن تؤرشف لاستعادتها ذات يوم، في سوريا خالية البال، من أجل ضحك لا يستنفد، أو للاستفادة من شخصيته في ابتكار أنماط هزلية مسرحية.
لقد ظن الكثيرون حينذاك أن عبيد هو النموذج الأسوأ، غير أن لدى سوريا – الأسد دائماً ما هو أسوأ، فلقد جاءوا بالممثل زهير رمضان، وقد لعب هذا، من موقع النقيب، أكثر أدواره هزلية. مقابلاته، صوره، قراراته، ردود أفعاله يجب أن تؤرشف لاستعادتها ذات يوم، في سوريا خالية البال، من أجل ضحك لا يستنفد، أو للاستفادة من شخصيته في ابتكار أنماط هزلية مسرحية.
اليوم، يبدو أن الأجهزة إياها تمدّ من جديد لسان السخرية للسوريين وفنانيهم: ما رأيكم أن نحيي تلك المطاردة “التوم جيرية” (نسبة إلى توم وجيري) التي كانت تدور في مسلسل “ضيعة ضايعة” الكوميدي، بين المختار بيسة (زهير رمضان) وسلنغو (فادي صبيح) المرابط تحت شباك ابنة المختار؟ وهذا ما يحدث هذه الأيام بالفعل عبر معركة انتخابية حامية بين رمضان وصبيح للوصول إلى مقعد نقيب الفنانين.
اللافت أن صبيح، وهو ممثل محدود الموهبة، يحشد وراءه عدداً كبيراً من الفنانين من أصحاب الصوت العالي، المنادين بالتحرر من سطوة وديكتاتورية زهير رمضان، المستبد الهازل، ومن الواضح أن “أحرار” النقابة لا يؤيدون صبيح بالضرورة لأنه ذو مكانة، وموقع مهني رفيع، أو لأنه مشهود له بنضال نقابيّ مديد.. فكل الحكاية أنهم يريدون الخلاص من البيسة بأي ثمن، والأفضل على يد خصمه اللدود والتاريخي سلنغو.
لقد بلغ الفن السوري (تحت سقف سوريا – الأسد) لحظة عليه أن يختار فيها بين الممثل زهير رمضان والممثل فادي صبيح! إنه أمر لائق تماماً بهم، لا يتوقع المرء ما هو أشد تعبيراً عن الراهن السوري أكثر من ذلك.
كاتب فلسطيني سوري