عن سذاجةٍ ربما، أو تعبيرٍ عن أشواقٍ (أو أوهامٍ؟) لانفراجةٍ وعدلٍ للميزان المختل، أو أملٍ بأن تحت الرماد لم تزل جذوة نارٍ من كرامةٍ واعتدادٍ بالنفس وإن خبت، انتظر الكثيرون تَغَيُراً حقيقياً في الموقف الرسمي المصري في حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على الفلسطينيين، عقب استشهاد جنديين مصريين على الحدود.
تصور البعض أن إهانةً كتلك لا يمكن لها أن تمر، من دون ردٍ فعلي، صارمٍ صارخٍ، على الرغم من النظام، أنه سيُجبر عليه جبراً، لأن كرامته قد أهينت وصورته أمام العالم اهتزت، بل ديست، بتعدٍ كذلك بما يحمل من معاني الاستخفاف وعدم الاحترام.
وربما كان جزءٌ من الأماني نابعاً من تصورٍ بأن تعدٍ كهذا من شأنه أن يشكل تلك الشرارة (المنتظرة نظرياً من قبل البعض) التي ستضرم أكوام القش فتحدث من ثم هزةً أو تمردا داخل الجيش المصري فيسقط نظام السيسي.
لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. على العكس من ذلك تماماً فقد لجأ النظام إلى أسلوبه المفضل: تعامل مع الموضوع كأنه لا يعني شيئاً، ولا قيمة له البتة، أو كأنه حدث في بلدٍ آخر، أو في كوكبٍ آخر لا يعنيه ولا يمسه من قريبٍ أو بعيد، ولخبرته التي لا تُبارى في تمييع أعوص القضايا وأكثرها تعقيداً وتشابكاً، فقد أقدم على ما يجيده، دون سواه: التلاعب بالكلام كخطوةٍ أولى، ثم من بعد ذلك إغراق القضايا مهما كان نبلها في سيلٍ من غث الحديث، حتى تتوه التفاصيل وتلتبس الأحداث، فتنعدم جاذبية أي مواقف مبدئية، أو ثوابت استراتيجية، أو مرتكزاتٍ مؤسسة، حتى يطوي الموقف موج النسيان، الذي هو بحقٍ أحد أسوأ آفات حارتنا (على كثرتها)، خاصةً في ظل غلاءٍ وتردٍ في الخدمات لم يُعرف لها سابقة أو مثيل حتى في أزمنة الحروب.
هذه المرة برز لنا النظام مبتكراً أيضاً، وأثبت لنا حصافةً وثراءً في معجمه (على عكس ما قد نتوقعه من الضحالة المزرية لمستوى رجالاته الثقافي العام، ما يؤكد أن ذلك ليس من بنات أفكارهم، بل نتيجة استعانة بصديق)، فأتحفنا بتسميةٍ جديدة أطلقها على الشهيدين أثارت من التعجب بقدر ما لاقت من الاستهجان: «عناصر» ومفردها كما يعلم الجميع «عنصر».
أتحفنا نظام السيسي بتسميةٍ جديدة أطلقها على الجنديين الشهيدين أثارت من التعجب بقدر ما لاقت من الاستهجان: «عناصر» ومفردها كما يعلم الجميع «عنصر»
وعدا الضحك المغيظ الذي قد يثيره ذلك الاختيار العجب للمفردات فإنه، عمداً وقصداً مع سبق الإصرار، يحيل إلى شيءٍ محايد باهت، لا وجه له ولا كيان، لم يكن أي منهما إنساناً، فرداً، فذاً، بل هو محض عنصر، بلا هويةٍ ولا تاريخٍ ولا مستقبل، منبت الصلة بلا أسرةٍ أو قريةٍ ينتسب إليها، فاقد المشاعر والأحلام، مجرد عنصر، عدد، سيذهب ويأتي غيره، وقد أمعن في ذلك فلم يكرمهما بجنازةٍ عسكرية، ولم يلبث البعض أن استحضر نموذج الشهيد محمد صلاح، ومن قبل سليمان خاطر، وساوى بين العمل المنفرد العفوي لهؤلاء بتعديات جنودٍ في حالة حرب. غير أنك ما أن تتجاوز الصدمة الأولى والدهشة المقترنة بالاستهجان والقرف الأخلاقي وتتأمل الأمر قليلاً، لن تلبث أن تصل إلى استنتاجٍ «مطمئن»! هذا النظام لم يزل يؤكد أنه متسقٌ جداً مع ذاته، ربما بأكثر مما نعترف ونقر له به. فـ»العناصر» كثيرون والأمثلة عديدة، فالخمسة الذين نُحروا بدمٍ بارد إبان اغتيال جوليو ريجيني كانوا بالمعنى نفسه عناصر وشيماء الصباغ، شهيدة الورد، كانت عنصراً، وعشرات الآلاف المكومين فوق بعضهم بعضا في السجون عناصر، والرئيس مرسي رحمه الله لم يعدُ عنصراً بدرجة رئيس جمهورية (لم يشفع له التوصيف الوظيفي السابق ولم يخفف من كونه عنصراً) والحبل على الجرار، ما لم تنتم إلى المقربين من المؤسسة العسكرية والطبقة الحاكمة فأنت «عنصر»… أي بلا ثمن.
أَنَسى شخصياً ما كتبته في نظام السيسي (فما أكثر ما قلت وكتبت) فيعيد بأفعاله الشنعاء ليذكرني به، هو نظامٌ أعاد ويعيد الأسئلة عن مفهوم «القيمة»: ما هي قيمة العمل؟ ما قيمة أو معنى الاستقلال؟ ما قيمة الحرية؟ ما قيمة الكرامة وما معناها؟ ما قيمة مفهوم المواطنة؟ ما قيمة الإنسان؟ نظام السيسي نظامٌ «عنصري» بامتياز وبالمعنى الأشمل، هو يعتبر الناس والفقراء، أي سواد الشعب المصري، «عناصر» أو أشياء، ماهيةً أخرى، مغايرة ومختلفة، عبئاً أو فائضاً بشرياً، خارجاً مهدداً، يتخوف منهم ويناصبهم العداء ويمارس ضدهم تمييزاً «عنصرياً» متماهياً مع ممارسته الفصل الطبقي والحرب الطبقية وليس أدل على ذلك من إلغاء الدعم وآخر أمثلته الصارخة هو سعر رغيف الخبز الذي كان خطاً أحمر، لم يجسر أحد على المساس به بصورةٍ صريحةٍ منذ المظاهرات التي اقترنت به «مظاهرات الخبز»، في يناير 77 وزلزلت (ويرى البعض أنها كادت أن تطيح بحكم السادات).
هو الطبعة الأردأ من بين كل ما عرفت مصر من الاستبداد والقمع في تاريخها المعاصر على ما عرفت، فبإلغائه للدعم يخل بالمعادلة التي مارس النظام الاستبداد وفقاً لها، منذ انقلاب الضباط في يوليو، التي وجدت أبلغ تعبيرٍ عنها في شعبوية عبد الناصر: الصمت والقبول بعدم المشاركة السياسية مقابل الخدمات والدعم وتنميةٍ ما ومستوى معيشة مقبول حتى وصلنا الآن في دولة السيسي إلى قمعٍ واستبدادٍ، بلا أي حدٍ أدنى للخدمات، أي قمع بلا مقابل. كما يتبين ويتأكد لنا على ضوء استشهاد الجنديين وإلغاء الدعم عن الخبز كم يتعين علينا أن نتخلص من أي أوهامٍ عن نظام السيسي كأي شبهة كرامةٍ أو وطنية. إن هذا النظام متمترسٌ تماماً وراء مصلحته الشخصية ممثلةً في السيسي ومن حوله من المستفيدين واللصوص، متمترسٌ في الخندق الأمريكي – الصهيوني ولن يتحرك أو يتزعزع مهما تلقى من الإهانات، ولن يخطو خطوةً قد تهدد بغضبٍ أو شقاقٍ حقيقي مع الولايات المتحدة من شأنه أن يهدد بقاء النظام. ما يحكم حساباته في المقام الأول والأخير هي مصلحة النظام، أي الطغمة الحاكمة والسيسي تحديداً، لذا فإن أي خلافاتٍ أو «جفواتٍ» ليست سوى أشياء عابرة، تغيراتٍ مزاجية، تأتي كرد فعلٍ لانتقادٍ ما من الإدارة الأمريكية أو إلقاءٍ اللائمة من قبل إسرائيل، ما يشعر النظام المهووس والمسكون بالتخوف والشك بالخطر والتهديد فتأتي تلك التصريحات أو المبادرات الخجولة الباهتة كردود أفعالٍ ما تلبث أن تزول لتعود العلاقة العضوية المتينة.
في النهاية، لعله بات من المفيد، بل من الواجب الوصول إلى أن المشكلة في التعامل مع هذا النظام والسيسي تحديداً، منذ بداية قدومه، تكمن في أوهامنا، أو أوهام بعضنا عنه، عن نفسه ليست لديه أي أوهام ولا مبادئ عليا أو سامية، ما يحكم مجمل سلوكه هو البقاء والمصلحة، المادية حصراً، هناك مصلحة عليا واحدة فقط: البقاء، لو أننا استوعبنا ذلك جيداً سنتخفف من أي تصوراتٍ خاطئة قد «تضبب» أحكامنا وتوقعاتنا،
سيبيع السيسي ويبيد أي شيءٍ في الداخل المصري، ليس لديه مانع من فرم أي كمٍ من «العناصر» مقابل الاستمرار، من دون أن يوقفه أي اعتبارٍ وطني أو إنساني أو أخلاقي أو وازعٍ من رأفةٍ أو شفقة وعلينا الاستعداد لذلك.
كاتب مصري