ذات مرة شعرت بالاشمئزاز من كل شيء فانكفأت على ذاتي، كان ذلك قبل أكثر من عشر سنوات، وكان أهم من وجدته حولي أثناء ذلك الاعتكاف وتلك العزلة الاختيارية، وتنبهت لوجوده «علبة السجائر» التي كانت لا تفارقني كظلي، كنت أتأملها دائما فاخترت أن أصنع لها تعبيرا عن وجودها، الذي كان على الدوام وجودا منكرا لذاته..
في هاتف خلوي من الطراز البدائي القديم أزرار «نظام تماثلي ما قبل الأندرويد» كتبت على نوتته التي كنت أقوم بحفظها في داخله مقاطع نثرية عن «لفافة التبغ» بلغت مئة مقطع، كتاب كامل كتبته في هاتف بدائي، ولاحقا نشرت تلك المقاطع على صفحات منتدى ثقافي في شكل متسلسل، لكن المنتدى أغلق واندثر لاحقا، واختفت تلك النسخة التي كتبتها معه، ولاحقا أيضا جمعتها مرتبة في هيئة كتاب عنونته بـ»عن آخر تاء مربوطة تسكن رئتي»، ولاحقا أيضا وفي تلك الفترة نفسها قامت مترجمة يمنية بترجمة الكتاب المؤلف من المئة مقطع إلى اللغة الإنكليزية، وأثناء حديث لي مع أحد الأصدقاء في وقت غير بعيد عن تلك الفترة، اقترح عليّ أن يأخذ مني نسخة من الكتاب ويعرضه على معارفه في شركة التبغ والكبريت، وقال من المحتمل أن يوافقوا على طباعته على نفقة الشركة، خصوصا أنه يتناول موضوع السجائر ويتعرض لها بالشعر والفلسفة، وقد قام بعرضه بالفعل على مديرة تعمل في إحدى إدارات شركة التبغ والكبريت، فطلبت منه أن تأخذ النسخة التي زودته بها لتقرأها أولا، وبعد أن فعلت وقابلها لتخبره بالنتيجة قالت له: «أعذرني صديقك ليس مجرد مدخن، إنه محشش»، ولو أن الشركة قامت بتمويل طباعة هذا الكتاب فسوف تقوم المنظمات الإنسانية برفع دعاوى قضائية عليها وعلى المؤلف لإنه يحرض على التدخين وبشراهة، ويحبب الناس في السجائر بقصائده التي كتبها عنها.
ضحكت كما ضحك صديقي وربما نظرت إلى الأمر من جميع الزوايا إلا زاوية الفن فقط هذا ما أعرفه عن هذه القطاعات. أتذكر أن أول مقطع سطرت به الكتاب يقول: «في هذا العالم الضيق الطافح بكل ما يثير الاشمئزاز، لا يبتسم لي سوى شيء واحد فقط… أنت».
وفي مقطع آخر:
«أنا وأنتِ راعٍ وعصاه..
أتوكأ عليكِ..
وأهش بكِ على قلقي،
ولي فيكِ مآرب أخرى»
وفي مقطع آخر:
«أنّى للموت أن يكون فاجعاً لولا أنه يأتي بغتةً دفعةً واحدة، ولو أنه كالحياة يوهب أطوارا لكان حريا بالناس أن يبتهجوا من أجله، ولأني أود الاحتفاء بالموت احتفاء الناس بالحياة، جعلتكِ الأطوار التي أبلغ بها أسبابه.»
وهكذا وعلى هذا المنوال جرت المقاطع في الكتاب، والحقيقة أن ما فعلته في تلك الفترة وعشته كان نوعا من التعويض، فالمتنبي مثلا أنث القوة وأحلها محل المعشوقة، والنواسي أنث الخمرة وأحلها محل المعشوقة، ابن الرومي أنث الطبيعة وأحلها محل المعشوقة، وهكذا فعل الرومانسيون الإحيائيون وغيرهم كثير، فما هو الخطأ عندما قمت بتأنيث السيجارة والتعويض بها عن الأنثى على الأقل في تلك الفترة. كل تعويض جميل إذا كان هناك نتاج فني يعبر عنه.
كاتب يمني