استدعى بعض المحللين في بداية الحرب الروسية الأوكرانية أزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة، في تشبيه لمنطق الحرب المستندة إلى مبدأ حماية المجال الحيوي، للتذكير فقد كان الحديث عن قرب انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي ولحلف شمال الأطلسي (الناتو)، من أهم الدوافع التي قادت لتحرك موسكو العسكري، تحرك جاء بعد فترة من التهديد، الذي كانت أوكرانيا، تتعامل معه بلا مبالاة.
اللامبالاة الأوكرانية لم تكن تتناسب مع جدية التهديد الروسي، الذي يمكن أن نقول إنه بدأ منذ عام 2004، حين اختارت أوكرانيا فيكتور يوشينكو، المؤمن بأوروبا، رئيسا لها. ظنت أوكرانيا منذ ذلك الحين أنها مسنودة من قبل الحلفاء الغربيين. اليوم ربما يحس الأوكرانيون بأنهم خدعوا للمرة الثالثة بسبب الوعود الغربية، فبسبب الضغوط الدولية تخلت أوكرانيا منذ استقلالها عن ترسانتها النووية، التي ورثتها من الاتحاد السوفييتي، والتي كان بإمكانها أن تحقق لها الردع الكافي، ثم لاحقاً في عام 2014 أدى سوء التقدير، وغياب الدبلوماسية، لخسارتها إقليم القرم الاستراتيجي، قبل أن تواجه ثالثاً بتحدي الحرب الأخيرة في 2022.
هنالك شبه لا يخفى بين الأزمتين الأوكرانية والكوبية، التي وقعت في بداية الستينيات. الذي حدث هو أنه، رداً على تمدد حلف الناتو ووضع قاعدة عسكرية متقدمة داخل الأراضي التركية، وعلى مرمى حجر من الحدود الروسية، فإن الاتحاد السوفييتي فكر آنذاك في الاستفادة من علاقته بالقيادة الكوبية الشيوعية الجديدة، من أجل تحقيق الردع المطلوب عبر تجهيز قاعدة عسكرية صاروخية مماثلة، وفي موقع قريب من الحدود الأمريكية. كان ذلك يصب في مصلحة كوبا أيضاً، التي كانت ترى أن مثل هذه الخطوة تعني تقارباً استراتيجياً مع القوة الدولية الثانية، وأنها قد تكفل لها الحماية ضد أي هجوم أمريكي. حتى اليوم يؤمن كثيرون بأن أزمة الصواريخ الكوبية كانت كفيلة بأن تدفع للانزلاق في حرب نووية، لولا أن قطبي العالم آنذاك، واشنطن وموسكو، كانا مجبرين على التعامل بعقلانية، وعلى تذكر أن مثل هذا الانزلاق سيقود لتدمير شامل ولن يبقي شيئاً. قصة الصواريخ الكوبية فيها تفصيل لا يتم التوقف عنده في كثير من الأحيان. كانت كوبا، التي تزعمها فيدل كاسترو تمثل تحدياً كبيراً للولايات المتحدة، التي فوجئت، وهي تسعى لتحجيم النفوذ السوفييتي في آسيا وافريقيا، بنشوء دولة شيوعية على خاصرتها الجنوبية. بسبب القمع، ولكن أيضاً السياسات القاسية، التي شملت التأميم ومصادرة الشركات الخاصة، والكثير من رؤوس الأعمال، غادر الآلاف من الكوبيين البلاد ليستقر أغلبهم معارضاً أو لاجئاً في الولايات المتحدة.
لا يحتاج المرء للذهاب بعيداً في التاريخ ليتحقق من إمكانية إفشال المشاريع الغربية، فما هزيمة الغرب في أوكرانيا، وعجز دول الشمال عن السيطرة على الدب الروسي، إلا مثال على هذا
المخابرات الأمريكية حاولت الاستفادة من هؤلاء الساخطين، عبر تجنيدهم وصناعة قوة متدربة وقادرة على العودة إلى كوبا، وتغيير نظام الحكم فيها. كانت تلك الخطة، التي يصطلح على تسميتها خليج الخنازير، وذلك هو اسم المكان الذي رست فيه قوارب القوة العميلة إبان عودتها إلى كوبا، من أكثر الخطط المخابراتية فشلاً. سيكتشف الأمريكيون لاحقاً أن العملية، التي كان يفترض أن تكون سرية، وعلى شكل مفاجأة، كانت مكشوفة للجانب الروسي، الذي كان يتابعها خطوة بخطوة عبر عملائه، والذي كان يشارك تفاصيلها مع الكوبيين. المفاجأة كانت في الحقيقة من نصيب المهاجمين، الذين ما لبثوا أن نزلوا في الماء قرب الشاطئ، حتى تفاجأوا بإطلاق النار الكثيف عليهم في عملية انتهت باستسلامهم وأسر من نجا منهم من القتل. هذا الفشل لم يكن الفشل الوحيد الذي منيت به مخططات المخابرات الأمريكية، ففي تاريخ الحرب الباردة الكثير من الأمثلة المشابهة. تخبرنا هذه القصص أنه، وإن كان من الصحيح القول بأن الأمريكيين نجحوا في تدبير عشرات الانقلابات حول العالم، إلا أن هذا لا يعني أنهم كانوا قادرين في كل الأحوال على تنفيذ كل ما يخططون له. يجب أن نضع ذلك نصب أعيننا وأن نذكر به من يؤمنون إيماناً لا يتزعزع بأن كل حركة وسكون في هذا الكون إنما تتم بمشيئة واشنطن. أولئك الذين يعتبرون أي شيء، بما في ذلك هزائم الأمريكيين وانسحاباتهم الكبرى، على غرار ما حدث في أفغانستان، هو مجرد خطة مقصودة.
في حالة الصواريخ الكوبية لم تكن أمام الولايات المتحدة خيارات كثيرة. كان بإمكانها أن تستخدم العنف وتبادر لقصف هذه المنشآت العسكرية، لكن المشكلة كانت أن تلك الصواريخ كانت كثيرة، بحيث يصعب تحييدها أو استهدافها في ضربة واحدة. هذا يعني المخاطرة بتحمل تبعات رد الفعل الكوبي، الذي قد يلجأ للانتقام عبر إرسال ما يتبقى من صواريخ تجاه الأراضي الأمريكية، ما كان سيعرض حياة الملايين من المدنيين للخطر، وهو ما لا يستطيع أي رئيس أمريكي احتمال مسؤوليته.
فشلت الولايات المتحدة بكل ما كانت تملكه من لوجستيات وتخطيط في عملية «خليج الخنازير»، ثم فشلت في حفظ ماء وجهها حين أجبرت على التعهد بعدم التعرض لكوبا، التي كانت تفكر حتى وقت قريب في اجتياحها، وذلك في مقابل تفكيك الروس للصواريخ الكوبية. أحس الروس بأن عليهم استغلال الفرصة فمضوا لما هو أبعد من ذلك مطالبين بسحب الصواريخ الأطلسية الموجودة في تركيا، والتي كانت تستهدفهم في المقام الأول. كان الأمريكيون محقون بلا شك في السعي لإنهاء أزمة الصواريخ بشكل سلمي، فهم كانوا يدركون ما يعنيه حدوث هجوم نووي، فآثار ما نتج عن القنبلة النووية التي ألقيت على اليابان كانت ما تزال حاضرة. كارثة مفاعل «تشيرنوبل» السوفييتي، التي حدثت في أواسط الثمانينيات إثر خطأ فني غير مقصود أو متوقع، أعادت التأكيد على حجم الدمار والضحايا، الذين يمكن أن يسقطوا بسبب تحول الطاقة النووية لسلاح. كارثة تشيرنوبل كانت كفيلة، لو كان هناك تعقل كافٍ، لأن تدفع لوقف كل التجارب النووية وتفكيك كل المنشآت، حيث كانت تؤكد أن مجرد وجود المفاعلات النووية، حتى من دون حرب، هو أمر خطر، فالخطأ لأسباب بشرية أو طبيعية أو تقنية لا يمكن تجنبه بشكل مطلق. المسألة الكوبية حاضرة في كل ذلك وطالما كانت هافانا نموذجاً لكسر الإرادة الأمريكية، التي لم تملك إزاءها، إلا تفعيل عقوبات قاسية أثرت بشكل لا يخفى على الشعب، مثل غيرها من العقوبات الأحادية، التي امتدت لأكثر من دولة، لكنها لم تنجح في تغيير أي نظام.
المرء لا يحتاج للذهاب بعيداً في التاريخ ليتحقق من إمكانية إفشال المشاريع الغربية، فما هزيمة الغرب في أوكرانيا، وعجز دول الشمال عن السيطرة على الدب الروسي، إلا مثال على هذا. للتذكير فإن عبارة «هزيمة الغرب» ليست من عندنا، وإنما هي عنوان كتاب لإيمانويل تود أثار ضجة منذ ظهوره بداية العام. الكتاب، الذي كنا أفردنا عنه مقالا نشر في وقت سابق في «القدس العربي»، ما يزال صادما لكثير من الغربيين، خاصة أولئك الذين يرون في هزيمة الغرب هزيمة للديمقراطية. الغرب، وفق تود، ليس مؤهلاً لتقديم دروس أخلاقية، فإذا كان غزو أوكرانيا صادما له، فهو غزو يمكن تفهمه في إطار نظرية حماية المجال الحيوي، لكن كيف يمكن في المقابل تبرير أحداث مثل غزو الأمريكيين للعراق؟
كاتب سوداني