أغلقت الحدود بين سوريا والعراق بشكل كامل منذ عام 1982، على خلفية انقسام حزب البعث الذي بدأت خلافاته منذ الستينيات. كان على العراق حينها أن ينمحي من العالم بالنسبة للسوريين، لا كتب، ولا مجلات، ولا مكالمات تلفونية، ولا علاقات عشائرية أو أسرية، ولم يكن في إمكان الطير الطاير أن يلفي من الشرق.
وحده صوت إلياس خضر كان ينساب بعفوية نحو الجزيرة السورية من كل آلة تسجيل، ومن غير مواجهات مع السلطة، كأنه سمك الشبوط الذي سبح في الفرات عكس التيار. ستجد الكاسيت في كل بيت أو سيارة، ذلك الكاسيت المكسور في طرفه، ومقشور الورق في واجهته، لكنه يركب على المسجل بطريقة عجيبة، فتنطلق أغاني إلياس خضر فيه حية، وعذبة، تمر فوق النجوم على أكتاف الجنرالات لتصل إلى البشر المتعبين في الحقول والأسواق ومواقع الإنشاءات، وللمستلقين مساء تحت الشوادر على ضفتي النهر، يشوون السمك، ويرتجون نهاراً أفضل. ليس هذا فحسب، بل ستجد بوسترات المطرب على أبواب محلات التسجيلات، ببدلة زيتية اللون على خلفية فستقية، وستجد صوراً أخرى في فيترينات ستويوهات التصوير مؤطرة ببرواز من الخشب الذهبي، وسيوهمك صاحب الاستديو بأنه التقط صورة لإلياس خضر بكاميرته، مرتدياً الثوب العربي، وفوقه جاكيت إفرنجي كما يفعل الناس عندنا، وعلى رأسه العقال المائل فوق (الجمدانة) الحمراء أو (المحرمة) البيضاء.
لم نكن نعرف أن لقب إلياس خضر هو (صوت الأرض) ولا أن كنيته (أبو مازن) هذا عرفته مؤخراً، كنا نعرفه فقط الياس خضر (بتجاهل الهمزة) أو بالياس من غير إضافات، وكنت تجد على البلور الخلفي لوسائل النقل من الشاحنات الكبيرة والسوزوكيات الصغيرة، إلى البيك آبات الخاصة صورة لأي منظر، أو لأي فتاة إعلانات تحتها عبارة (عزاز والله عزاز) أو رسماً لعين تنزل منها دمعة وتحتها عبارة (مسافرين وعيني مشدودة لدربكم). بالنسبة للأطفال الصغار فأغانيه تتعلم بحكم العادة، ويصير صوته مألوفاً، وتدخل صوره اللغوية في معاجمهم الدلالية، فهم إن لم يسمعوها في البيت، فلا بد من عند الجيران، أو في الدكاكين حول المدرسة، أو في شارع المنصور أو شارع الوادي أو القوتلي، وعند الساعة وسط المدينة، وعلى عربات سندويش الكبدة. سيتهدج صوته مجروحاً، في ليالي الصيف على سطوح الدور المتلاصقة، ليصيب كل قلب معنى، وفي أمسيات الشتاء يتجمع السمار حول المدفأة مع مؤونتهم من بزر (عين الشمس) وإبريق الشاي المحلى بأسوأ أنواع السكر، الذي كان الحصول على ربع كيلو منه يعد معجزة. لا تهم التسجيلات السيئة، التي لا نعرف إن كانت بسبب الأجهزة القديمة، أم بسبب الأشرطة المنسوخة عن بعضها بعضا، فنحن نسمعها بذاكرتنا اليومية، وليس من الشريط المغناطيسي الملفوف على بكرتين صغيرتين. كان العراق نصف جذورنا المحرمة، وكان صوت إلياس خضر الدليل الوحيد الحي على وجوده، بعد كتب التاريخ. ولعل ذلك زمن مضى بقضه وقضيضه، إذ بعده فتحت أبواب سوريا لعراقيي الألفية الجديدة، بعد الغزو الأمريكي.
أعاد إلياس خضر عبر أغانيه إنتاج صورة العاشق بصيغة رومانسية تناسب مرحلة الهزائم العربية على المستوى الجمعي، لكنها لا تنفي تماماً الإرث الكلاسيكي للعشق في الثقافة العربية، التي أرساها الشعر منذ نماذجه الجاهلية، فالعاشق كريم، ونبيل، وطيب العشرة رغم مرارة الحب، ورغم تدلل الحبيب، والفراق بعد الحب لا يتبعه منة أو أذى، هناك فقط الرغبة في تذكر اللحظات التي سرقت خلسة من الزمان، وإن حدث وعاد، فمرحب به في أي لحظة، وذلك لا يتناقض أبداً مع عزة النفس والتخلي في سبيل الحفاظ على الكرامة. سألت ابنة عمي مرة، وكنت صغيرة في العاشرة، وكانت شابة في العشرينيات، تستمع إلى إلياس خضر خلال وقتها الذي تقضي جله في المطبخ، وهي تطل كل حين من نافذتها لتتأمل جريان الفرات أمام البيت: لماذا أغاني الياس معظمها بصيغة الجمع: مجروحين، تايبين، مسافرين؟ لماذا تحبين إلياس خضر، قالت لي: انتظري كم سنة، وستفهمين وحدك! ويبدو أنني فهمت، في الوقت المناسب، تلك الشعرية الخاصة التي شكلت جزءاً من المنظومة الثقافية المتعلقة بالعلاقات بين البشر وسلطة المتعاليات، وهيأت المتلقي لتمثل بلاغة الصورة، لتصير الأغنية جزءاً من الشخصية، ودليلاً مثل الحكم والأمثال.
قدم إلياس خضر أغاني المطربين الذين اشتهروا قبله، مثل سعدي الحلي وسعدي البياتي، ومنها: عاين يا دكتور، وعليمن يا قلب تعتب عليمن، لكنه شكل مع مظفر النواب وطالب القرغولي ثلاثياً فذاً، وضع نصب عينيه طريق الجنوب، حيث الناصرية معقل الحراك اليساري، التي جاء منها كل من إلياس والقره غولي، وتمثلها مظفر في شعره لغة، ورمزاً وجغرافيا. قدم الثلاثي الأغنية العاطفية ذات المحمولات السياسية، التي استعملت المورفولوجيا الشعبية لخطاب حيوي وقريب من الناس: الرمز الشعبي، وجماليات الثقافة غير العالمة، والحدث التاريخي، والعديد من الأقنعة الفنية للالتفاف على التابو في مرحلة حساسة جداً من تاريخ القمع العربي، واستهدافه اليسار، الذي كان شعراؤه ينتقدون الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية للجماهير، إذ تجبرهم على العيش في إطار تقاليد بائدة، تزيد من حالة الحرمان، وينددون بالطبقية التي تحولت من أشكالها الاجتماعية القديمة إلى أوليغارشية مركزها الحاكم، في بلاد يفترض أن تكون جمهوريات. انتقلت تلك الأغاني من وراء الجدران مثل الأوكسجين، مستعصية على التأويل الحاسم، كما حصل مع نصوص شعراء المتصوفة.
لا شك في أن أغنية (الريل وحمد) ذاعت شهرتها في تلك الرحلة التي تقتنص لحظة الوقوف على الطلل في قرية أم الشامات: « يا بو محابس شذر، يالشاد خزامات/ يا ريل بالله بغنج/ من تجزي بام شامات/ ولا تمشي مشية هجر/ قلبي بعد ما مات» لكن ثمة أغنيات أخرى تتفوق عليها على المستوى الدلالي مثل (حن وانا حن) أو (ليل البنفسج) التي ظهرت في السبعينيات، لتمثل في موتيف لغوي صغير قوة الجذور وكرمها وعطفها، وهو عبارة (مامش بمامش) التي تحمل معنى العدم على الدلالة الصفرية، لكنه العدم الذي ينتج الوجود. على الرغم من بعد النص من شعرية المركز لغة وتعبيراً، أصر إلياس خضر على غنائه بلحن القره غولي على مقام النهاوند، لينقله إلى بعد أعمق، فتشيع الأغنية في كل مكان مثل ترانيم عشتار وأناشيد هوميرس. منعت الأغنية من البث في العراق لثلاثين عاماً، وقد قيل في ذلك المنع إنه بسبب مقهى (ليل البنفسج) الذي يتجمع فيه الشيوعيون في الناصرية. لعل الحقول الدلالية التي تنتمي المفردات إليها تتناقض مع الدلالات السياسية، لكن السياق الثقافي الذي أنتجت فيه الأغنية بنصها ولحنها ييسر التأويل، ويكشف عن قدرة الفن على القفز على المحظورات بهوادة، بلا ادعاء ولا صراخ: يا طعم، يا ليلة من ليل البنفسج/ يا حلم يا مامش بمامش/ كانن ثيابي عليّ غربة قبل جيتك/ ومستاحش من عيوني/ وألمتني وعلى المامش علمتني/ شلون اوصْفك وانت كهرب/ وانا قمرة عيني، دمعة ليل ظلمة/ شلون اوصْفك وانت دفتر/ واني كلمة!
زار الياس خضر الرقة بعد الغزو الأمريكي، واستضافه الأهالي في الدور والمضافات، حيث أقيمت حفلات السمر رفقة عازقين ومطربين محليين، لا في المطاعم أو المسارح، وحضرها النساء والرجال والأطفال، وغنوا معه، وذكروه إذ نسي، وأدهشوه بمحبتهم، وعشقهم للفن، وحفظهم لأغانيه، وللمقامات والشعر والتراث من الميامر إلى الأبوذيات، وظل صوته يصدح في ليالينا رغم الجراح التي اكتشفنا بعدها أنها أعمق من أن تندمل.
كاتبة سورية