عن ارتهان الممارسة الديمقراطية للمال في الغرب

تربك سطوة المال على السياسة في المجتمعات الديمقراطية حسابات الليبراليين، وتنزع مصداقية أحد الادعاءات الأساسية للفكرة الليبرالية وهي كون المواطنين أصحاب حظوظ متساوية في تحديد هوية شاغلي المناصب التنفيذية والتشريعية ومن ثم وجهة ومضمون السياسات العامة المنفذة.
المبالغ الطائلة التي تنفق في الحملات الانتخابية، ومحدودية اعتماد المرشحين للمناصب التشريعية والتنفيذية على تبرعات المواطنين الصغيرة مقارنة بتبرعات المصالح الاقتصادية والصناعية والمالية ونخب أصحاب الأعمال، وأدوار جماعات الضغط التي حلت عملا محل الأحزاب السياسية في صياغة تصورات وبدائل السياسات العامة بشأن طائفة متنوعة من القضايا من النظم الضريبية إلى قوانين الرعاية الصحية وحماية البيئة؛ مثل هذه العوامل وغيرها تقلل عملا الاختيارات المتاحة للمواطنين حين يذهبون إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات.
وعندما تدفع من جهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة التي تتعرض لها المجموعات السكانية الفقيرة والطبقات الوسطى ومن جهة أخرى دينامية النقاش العام في المجتمعات الديمقراطية بمرشحين من اليسار التقدمي كبرني ساندرز ورشيدة طليب وإلهان عمر في الولايات المتحدة الأمريكية أو من الليبراليين غير التقليديين كالكثير من سياسيي الخضر في أوروبا وتدفع من خلالهم بتصورات للسياسة العامة أكثر إنسانية وعدلا وحرية، فإن سطوة المال على السياسة تفرض إما استبعادهم من السباقات الكبيرة (كالرئاسة الأمريكية) أو تبقي عليهم في مواقع هامشية داخل أحزابهم.
وغير بعيد عن ذات الأمر صعود الشعبوية في المجتمعات الديمقراطية. يعتمد دونالد ترامب ومؤيدوه الأمريكيون ونظراؤه الأوروبيون على مصالح اقتصادية وصناعية ومالية كبرى تجتذبها المقولات العنصرية والشوفينية من نوعية «أمريكا أولا» و«سنعيد هولندا إلى الهولنديين» و«العرب والمسلمون كالطاعون المدمر لفرنسا» و«هوية ألمانيا في خطر»، ومن ثم تمول تلك المصالح حملات الترامبيين الانتخابية وتقدم لهم دعما سياسيا مؤثرا.
إلا أن الشعبوية تعمل على اصطياد المواطنين الفقراء ومحدودي الدخل والمنتمين للطبقات الوسطى بزعم تبنيها سياسات عامة ضد المصالح الكبرى ورفضها للعولمة الاقتصادية واتفاقيات التجارة الحرة التي تنقل فرص العمل من الغرب إلى مناطق أخرى في العالم (خاصة آسيا) ولا يستفيد منها سوى أغنياء الغرب، وأيضا بادعاء حرص الشعبويين على تنقية السوق من الأجانب والمهاجرين غير الشرعيين لكيلا يواجه أبناء البلد منافسة تقلل من حظوظهم في العمل وتهدد مستوياتهم المعيشية.
بمكيافيلية صارخة، جاء ترامب في سنوات إدارته إلى السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بحكومة الوزراء من فاحشي الثراء وأصحاب الثروات الطائلة من مضاربات في البورصات العالمية ومن ترأس بنوك عالمية وشركات مضاربات مالية تقدم دخولا خيالية ومن الإفادة من الأزمات المالية كأزمة 2008 التي أحدثها جشع رؤساء تلك البنوك والشركات ومن العولمة الاقتصادية التي تتيح إنتاج الكثير من السلع بأرخص الأسعار في بلاد الشرق والجنوب الرخيصة. جاء بهم ترامب في إدارته بعد أن دغدغ مشاعر الفقراء ومحدودي الدخل والطبقة الوسطى (البيضاء) بخطاب الانحياز إلى مصالح المظلومين والمهمشين وبسطاء العمال (من البيض فقط) الذين تراجعت دخولهم الفعلية، وبمقولات رفض العولمة وجشع المصالح الاقتصادية والمالية الكبرى، وبوعود الحفاظ على فرص العمل في القطاع الصناعي بمعاقبة الشركات الأمريكية وغير الأمريكية التي تنقل خطوط إنتاجها من الولايات المتحدة إلى الخارج.

كيف يحصل الشعبويون في آن واحد على التمويل اللازم لحملاتهم الانتخابية ولأحزابهم وحركاتهم السياسية من المصالح الكبرى ويعتاشون على دغدغة المشاعر بزعم رفضهم لسطوة المال على السياسة وانحيازهم للأغلبية؟

يستعصي موضوعيا تفسير الدور السياسي المؤثر لترامب في الولايات المتحدة ونظرائه كالسيدة لوبن في فرنسا وفيلدرز في هولندا وحركة البديل من أجل ألمانيا دون إدراك كيف يحصل الشعبويون في آن واحد على التمويل اللازم لحملاتهم الانتخابية ولأحزابهم وحركاتهم السياسية من المصالح الكبرى ويعتاشون على دغدغة المشاعر بزعم رفضهم لسطوة المال على السياسة وانحيازهم للأغلبية التي يكونها (البيض من) الفقراء ومحدودي الدخل وبسطاء العمال والطبقة الوسطى.
ليس في مكيافيلية الشعبويين هذه سوى إفادة من الأزمة التي تحدثها للفكرة الليبرالية سطوة المال وتفريغ مبدأ المساواة بين المواطنين من المضمون. ويتشابه ذلك بجلاء مع صعود الحركات الفاشية والعنصرية في الغرب بين الحربين العالميتين وفي سياق الكساد العظيم في الثلث الأول من القرن العشرين حيث تحالفت المصالح الاقتصادية والمالية والصناعية الكبرى في ألمانيا وإيطاليا مع حكومتين إجراميتين قتلتا واضطهدتا وأشعلتا الحروب وأطلقتا آلات عسكرية مجنونة لبناء الإمبراطوريات. وكل ذلك أفاد المصالح الكبرى بشدة (لم يزل على سبيل المثال تحالف كبريات البنوك والشركات الصناعية الألمانية مع النازي وتورطهم عبر الدعم المالي وتصنيع العتاد العسكري ومستلزمات الجيوش في الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بين 1933 و1945 يلقي بظلاله القاتمة على بنوك كالبنك الألماني وشركات كسيمنس وبوش ودايملر بنز وهينكل وغيرها). وفي نفس الوقت زعم الفاشيون انحيازهم إلى أبناء البلد الأصليين ثم دفعوا بهم بعد أن زيفوا وعيهم بعنصرية بائسة ووطنية شوفينية إلى أتون الحروب وهاوية الموت لكي تبنى الإمبراطوريات وتضمن المواد الخام بأسعار زهيدة وتفتح الأسواق العالمية وتحضر العمالة الرخيصة – فمن بين الحقائق المنسية لهولوكوست النازيين ضد اليهود الأوروبيين كون النازي استنزفهم كعمال سخرة قبل الإبادة في المصانع والأرض الزراعية وأعمال البناء.
واليوم، يعد الشعبويون خاصة في أوروبا بسياسات مشابهة ويربطون بين وعودهم وبين مقولات العنصرية والوطنية الشوفينية التي توظف لتزييف الوعي واستكمال دغدغة مشاعر الناس بغية الحصول على انتصارات انتخابية.
والنتيجة هي أن سطوة المال تقضي على ثقة قطاعات شعبية واسعة في الفكرة الليبرالية والممارسة السياسية المرتبطة بها، وتلغي عملا مصداقية مبدأ المساواة بين المواطنين كناخبين لهم نفس حظوظ التأثير إن فيما خص نتائج الانتخابات أو لجهة تحديد هوية شاغلي المناصب التنفيذية والتشريعية. يحرز أنصار ترامب انتصارات انتخابية متتالية في الولايات المتحدة بتوظيف مزدوج لسطوة المال يجمع بين الحصول على دعم أصحاب الثروة ودمجهم في أروقة السلطة والحكم وبين إنتاج خطاب سياسي مكيافيلي يزعم زيفا محاربتهم والانحياز إلى المظلومين والمهمشين من الفقراء ومحدودي الدخل والعمال والطبقات الوسطى ويروج لزيفه بمقولات عنصرية وشوفينية تدغدغ المشاعر.
في المقابل، تعجز الأحزاب والحركات الليبرالية التقليدية كالحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة والأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا عن الاعتراف بالتداعيات الكارثية لسطوة المال، وتخفق في تطوير تصورات وبدائل للسياسات العامة تستهدف تغيير الدفة وإنقاذ الممارسة السياسية للفكرة الليبرالية المستندة إلى التعددية وتداول السلطة وحكم القانون من الانهيار باستعادة مصداقية مبدأ المساواة بين المواطنين وتحجيم دور المال وأصحابه في السياسة، ولأن الليبراليين التقليديين عاجزون ستتواصل هزائمهم الانتخابية، ويستمر انصراف الناس عنهم، وتتصاعد الاتهامات الموجهة إليهم كنخب فاسدة متحالفة مع المصالح الكبرى ولا يعنيها الصالح العام ولا تلتفت إلى أزمات المواطنين، وتتكرر مشاهد انجراف الناخبين نحو الشعبويين. ولأن الليبراليين التقليديين عاجزون لن يأتي من خاناتهم الإنقاذ المرجو للفكرة الليبرالية، بل قد يصدر على الأرجح عن خانات اليسار التقدمي الذي يقاوم اليوم ترامب في الولايات المتحدة وخانات الليبراليين غير التقليديين كأحزاب الخضر على امتداد أوروبا.

كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية