التحولات الجارية في المنطقة العربية أعادت النقاش مرة أخرى حول مفاهيم العلمانية والديموقراطية وعلاقة الدين بالدولة وضوابط الحرية، وأضحى الإسلاميون مطالبين بإعادة تقديم إجاباتهم حول هذه المفاهيم، والرد على بعض التنظيرات التي تربط الديموقراطية بالعلمانية، وبسيادة مبدأ الحرية بدون ضوابط..
هل يمكن اعتبار العلمانية شرطا لبناء الديموقراطية؟ وهل كونية حقوق الإنسان تنصرف للدلالة على ضرورة إلغاء الخصوصيات الثقافية والحضارية للشعوب؟ وهل مبدأ الحرية يخضع لضوابط أخلاقية أم لا؟
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في سنة 1948 لا يشير لمصطلح العلمانية ولا حتى لمصطلح الديمقراطية، لكنه يعتبر في المادة 21 أن لكل شخص حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلده، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية، كما يشير في المادة 18 إلى حرية المعتقد بما في ذلك حرية تغيير الدين..ولا يفهم من هذه المبادئ أي نزعة علمانية لفصل الدين عن الدولة لكن يستنتج منها الحق في المشاركة، الحق في الانتخاب، الحق في تولي المسؤوليات العامة، الحق في اختيار المعتقد الديني…
وبالرجوع إلى بعض الدراسات الدولية التي تعنى بقياس مؤشرات الديمقراطية في العالم لا نعثر على مؤشر العلمانية أو فصل الدين عن الدولة، من ذلك على سبيل المثال الدراسات العلمية التي قامت بها كل من مؤسسة فريدوم هاوس ومؤسسة بيرتلزمان بحيث قامتا برصد تطور الديمقراطية في العالم استنادا إلى المعايير المعتمدة من طرف تقرير التنمية البشرية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وتقرير منظمة الشفافية الدولية، ومعلوم أن هذه المؤسسات تشتغل في إطار مبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا…
قامت مؤسسة فريدوم هاوس قبل أربع سنوات بقياس مؤشرات الديمقراطية في 193 دولة في العالم، وصنفت 89 منها كدول حرة و62 دولة حرة جزئيا بينما صنفت 42 دولة بأنها دولا ليست حرة.. من بين الدول الحرة: الهند، لأنها تعيش في ظل ديموقراطية انتخابية حقيقية، علما أن حضور الدين في الحياة العامة داخلها حضور أساسي.
الدولة الديموقراطية بامتياز هي السويد وكذلك دول أوربا المجاورة لها: النرويج وإيسلاندا وهولندا والدنمارك وفنلندا، وهي كلها ملكيات ديموقراطية لا تنص في دساتيرها على العلمانية الشمولية وتتواجد بها العديد من الأحزاب الديموقراطية المسيحية.
وبغض النظر عن السياقات التاريخية والسياسية التي مرت بها أوربا والتي فرضت الاتجاه نحو فصل المؤسسة الدينية (الكنيسة) عن المؤسسة السياسية (الدولة)، وليس فصل الدين عن الدولة كما يتصور البعض، فإن الواقع يثبت حضورا قويا للدين في الحياة السياسية للعديد من المجتمعات.
إن من المميزات الأساسية للديمقراطية كما تقرها العديد من المؤسسات الدولية هي إجراء انتخابات حرة ومنتظمة، وإقرار تعددية الأحزاب وتنافسيتها، ووجود حكومة قائمة على قاعدة الأغلبية، وتمتيع البرلمان بسلطة مراقبة الحكومة، ومساواة الجميع أمام القانون..وليس هناك أي اهتمام من طرف هذه المؤسسات بضرورة فصل الدين عن الدولة أو فصل الدولة عن الدين..
بمعنى أن شرعية الحكم تتأسس على الإرادة الشعبية وأن السيادة للأمة تمارسها عن طريق الانتخاب وليس عن طريق ‘الحق الإلهي’ كما كان سائدا في أوربا في عصر الظلمات..
إن مطلب ‘فصل الدين عن الدولة’ فضلا عن كونه مطلبا سياسيا فهو مطلب غير واقعي ولا يساير مؤشرات قياس الديموقراطية كما هي متعارف عليها دوليا..
إن المطلوب هو فصل القداسة عن السلطة وليس فصل الدين عن الدولة، ذلك أن الدين يسكن وجدان المجتمع كما يسكن وجدان من يمارس السلطة، ولذلك لا يمكن الفصل بينهما..
لكن في نفس الوقت، لا يمكن قبول ممارسة السلطة المغلفة بالقداسة والتي لا تقبل المحاسبة والمراقبة..
دعونا نتفق على هذا المستوى الذي يقترب مما كان يسميه أستاذنا الراحل عبد الوهاب المسيري ‘العلمانية الجزئية’، أما العلمانية الشاملة فهي منزلق تاريخي لا يمكن إلا أن يكون مرفوضا في مجتمعاتنا الإسلامية..
في كتابه ‘محاولة في الفهم البشري يؤكد جون لوك(1588-1679)’ أن الحرية ينبغي أن تستخدم لأهداف ذات معنى، والهدف الأساسي من الحرية هو الحصول على السعادة الأبدية’، ويؤكد بأن ‘الله لم يخلقنا بدون دليل ولا غاية، وأن الالتزام بقوانين الله وأوامره يحدد حريتنا بحيث يتحقق لأرواحنا الفلاح الأبدي والسعادة الأبدية:.
إن الوضع الطبيعي الذي يتمتع فيه الناس بالحرية الطبيعية، حسب لوك، ليس وضعا فوضويا ، فللناس في ظل هذا الوضع حرية غير قابلة للتحديد، ورغم ذلك فهم ليسوا أحرارا كي يقضي كل منهم على الآخر، فالوضع الطبيعي هو الذي يلتزم فيه الأفراد بعدم إلحاق الضرر بحياة الآخرين وسلامتهم وحريتهم وأموالهم ومشاعرهم.
يقول لوك: ‘ على الناس جميعا أن يعلموا أنهم مظهر براعة قادر مطلق وصانع عاقل حكيم لا يتناهى، وأنهم أتوا إلى الدنيا على أساس أمره وحسب مشيئته، فهم مملوكون له ، وتجل لقدرته، خلقوا من أجل أن يستمروا على مدى سعادته:.
إن نظرة هذا الفيلسوف للحرية هي أن الإنسان محدد بواسطة إرادة الله وقانونه، وتقوم حريته على هذا الأساس، ولذلك لا يعد الوضع الطبيعي وضعا فوضويا يحدد فيه كل فرد مضمونه للحرية كما يشاء من أجل أن يفعل ما يشاء متى شاء، وإنما هو وضع يشعر فيه المواطنون بالمسؤولية إزاء القانون الطبيعي بتعبير لوك.
والشعور بالمسؤولية إزاء القانون الطبيعي هو ناجم في الحقيقة عن شعورهم بالمسؤولية أمام الله كخالق ومشرع.
هذه النظرة كانت مرتبطة بمفهوم الإنسان المتأثرة بالنظرة الإيمانية للكون والحياة، وهي نظرة خضعت للكثير من التغيير مع عصر النهضة الأوروبية وبالخصوص في تصورات ما يسمى بـ’النزعة الإنسانية’ (القرن السابع عشر) التي قامت على أساس إعادة الاعتبار إلى الفرد البشري وتحريره من الشعور بوزر ‘الخطيئة الأصلية’ (خطيئة آدم) وتحريره أيضا من قبضة الكنيسة وهيمنتها على حياته الروحية، كما عملت هذه النزعة على تحرير جسده وحياته المادية من هيمنة سلطة ‘الأمير’ ونزعة استعباد الناس بعضهم بعضا.
لكن النظرة للإنسان جاءت مختلفة في السياق الإسلامي فهي جاءت متحررة من عقدة الإحساس بالخطيئة (خطيئة آدم) ومن عقدة هيمنة الكنيسة على المجال الروحي والزمني، بل جاءت معززة بتكريم الله للإنسان بالعقل ومنحه القدرة على التمييز وتفضيله على باقي المخلوقات ومنحه الحرية ليختار ما يشاء بما في ذلك حرية الاعتقاد وحرية الإيمان ونبذ الإكراه على الاعتقاد.
‘ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ’ صدق الله العظيم، سورة الكهف الآية 29.
‘ كاتب من المغرب
التحية والتقدير للأستاذ المحترم. مقالكم الشيق جدير بأن يتمعنه كل لبيبب محترم.الدعوات المتكررة من أشباه المثقفين المتنطعين لنبذ الدين وإقصائه من الحياة العامة لا تستقيم على أي هدى ولا بصيرة . والحال أن واقع البشرية في ظل التيهان الوجداني بسبب غياب العقيدة السليمة السمحة -ونعتقد هنا جازمين بأنها ليست سوى ديانة الاسلام- يسوق هذه البشرية إلى معيشة ضنكة، وبمعنى العصر إلى تسلط أقلية على الأكثرية مما يفسر الأمر بغياب الديمقراطية الحقة.
مقالكم سيدي يستحق كل تقدير. تحياتي..
أحمد اولاد عيسى
Reply
العيش الكريم في ظلال العقيدة السمحة: الاسلام
Posted June 21, 2013 at 10:06 AM
التحية والتقدير للأستاذ المحترم. مقالكم الشيق جدير بأن يتمعنه كل لبيبب محترم.الدعوات المتكررة من أشباه المثقفين المتنطعين لنبذ الدين وإقصائه من الحياة العامة لا تستقيم على أي هدى ولا بصيرة . والحال أن واقع البشرية في ظل التيهان الوجداني بسبب غياب العقيدة السليمة السمحة -ونعتقد هنا جازمين بأنها ليست سوى ديانة الاسلام- يسوق هذه البشرية إلى معيشة ضنكة، وبمعنى العصر إلى تسلط أقلية على الأكثرية مما يفسر الأمر بغياب الديمقراطية الحقة.
مقالكم سيدي يستحق كل تقدير. تحياتي..
انتم حزب لا يؤمن بالديمقراطية في مرجعياته الفكرية وفي سلوكاته السياسية والثقافية والاجتماعية، إضافة إلى مسألة مبدئية تعتبر مضرة بالمرتكزات الديمقراطية وقاتلة للدينامية السياسية ولقواها المدنية الحية، هذه المسألة هي اعتمادكم على المرجعية الدينية في العمل السياسي، وتزداد خطورتها في مزاحمتها لإمارة المؤمنين في تبني تلك المرجعية الدينية، وهي بذلك تقومون بسلخ الشرعية الدينية عن أمير المؤمنين لبناء شرعية سياسية تتلبس بها لباس القداسة. انكم تقومون بلعبة قذرة على الامة المغربية انتم لاتؤمنون بالهوية الدينية والثقافية المغربية تريدون تهريب المشروع الاخواني الوهابي الى المغرب…الشعب المغربي فطن بكم