عن الإعلام والمسؤولية والقيم

حجم الخط
0

عن الإعلام والمسؤولية والقيم

د. عبدالوهاب الافنديعن الإعلام والمسؤولية والقيمألتمس بعض العذر للتغطية الإعلامية لمداولات منبر الجزيرة الإعلامي الثاني الذي انعقد في الدوحة أوائل الشهر الماضي، أو علي الأقل ما يخصني من هذه التغطية التي نقلت علي لساني مقولات أنكرتها. ولعل السبب في ذلك أن البرنامج أتاح برهة يسيرة لا تزيد عن خمس دقائق لتناول مسائل معقدة، وقد اخترت تقديم مداخلتي الأولي بالانكليزية مراعاة لغالبية الحضور، مما قد يعقد الأمر أكثر بسبب أخطاء الترجمة.مهما يكن فإنه لزم الاستدراك علي ما نشر لأن القضايا التي عهد إلينا بتناولها، وهي مسألة القيم الإعلامية ومن يحددها، لها أهمية لا تخفي. وكنت قد اخترت في مداخلتي أن أستعيد سجالاً ظل يدور بيني وبين الأخ الصديق البروفيسور عبدالله شليفر، مؤسس مركز أدهم لدراسات الإعلام في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ومديره (علي الأقل حتي نهاية العام الماضي، حيث هو الآن بصدد العودة إلي واشنطون ليتولي إدارة مكتب إحدي القنوات الفضائية هناك، وهو أمر مؤسف لأكثر من سبب). وقد بدأ هذا السجال في أواسط الثمانينات حينما كنت أتولي إدارة تحرير مجلة آرابيا هنا في لندن، وكان شليفر ينتقد أسلوبنا بشدة، ويتهمنا بإعادة إنتاج قيم الإعلام الغربي في ثوب إسلامي شفاف. وتنبع هذه الانتقادات من نظرة شليفر للإعلام عموماً، حيث كان يقول إن الحديث عن إعلام إسلامي هو، مثل الحديث عن المصارف الإسلامية، تناقض في المفاهيم، لأن بين الإعلام والإسلام وبين الإسلام والصيرفة بعد المشرقين. وأفضل ما يمكن أن يقال عن الإعلام أنه شر لا بد منه.عبدالله شليفر، لمن لا يعرفه، شخصية مثيرة لإهتمام تستحقه. وكان شليفر جاء إلي القاهرة من موطنه في نيويورك مراسلاً لمحطة تلفزيون إن بي سي الأمريكية، وطاب له المقام في القاهرة التي اعتنق فيها الإسلام هو وزوجته وظل مقيماً بها منذ ذلك الوقت. وككثير من الغربيين الذين جذبهم إلي الإسلام نفورهم من الحضارة الغربية وإفراطاتها، فإنه يميل إلي الحياة والقيم الإسلامية التقليدية ويتوجس من كل تأثير أجنبي علي قيم الإسلام، خاصة كل ما يمت إلي الحداثة بصلة. ولكن أكثر ما يميز شليفر هو نظرته العميقة إلي الأمور بحيث يكون للحوار معه دائماً متعة خاصة. فهو يثير أسئلة تتعلق بجوهر القضايا، ويسعي إلي النفاد من شكليات الظواهر إلي جوهرها.ولشليفر نظرية تشبه نظرية المؤامرة في نشأة الصحافة، التي يري أنها نشأت جنباً إلي جنب مع نشأة المصارف في فجر الحقبة الرأسمالية وفي تحالف معها، حيث كان أصحاب المصارف يستخدمون الإعلام في معاركهم ضد الكنيسة التي كانت (سقي الله تلك الأيام!) تحرم الربا ومنكرات أخري كثيرة أصبحت تستحلها. من هنا نشأ تحالف الصحافة مع المال، وارتبط كلاهما بمصلحة مشتركة في التمرد علي الدين وقيمه، واستخدمها المرابون الجدد في التشهير بالكنيسة وزعامتها. وقد دأبت الصحافة منذ نشأتها، بحسب شليفر، علي تتبع الفضائح والإثارة مما جعلها عامل هدم في المجتمعات الغربية، وهو دور لا تزال كل وسائل الإعلام تقوم به بهمة ونشاط. ويسوق شليفر حججاً تثبت أن طبقة الإعلاميين في الغرب تعتبر كمجموعة أكثر ليبرالية وأقل التزاماً أخلاقياً من غالب أهل المجتمع، ولهذا فإن الإعلام دائماً ما يوجه الرأي العام وجهة تبتعد عما تريده أو ترضي به الأغلبية، سواء أكان ذلك في العلاقات الاجتماعية أو غيرها.وفيما يتعلق بالقيم الإسلامية فإن الإعلام في جوهره يناقض قيماً اجتماعية أساسية يحث عليها الدين الإسلامي، أهمها عدم تتبع عورات الناس والستر عليهم، وعدم تدخل الإنسان فيما لا يعنيه. ويذكرنا شليفر بأن واجب المسلم إذا علم عن أخيه أمراً أن يسكت عنه لا أن يذيعه، لأن هذا يكون من باب الغيبة التي نهي القرآن عنها. ومن باب أولي أن يمتنع عن التجسس والبحث عن العيوب المستورة. وفي المجتمع الإسلامي ينبغي ألا يركز الناس علي الحديث عن عيوب بعضهم البعض، بل حتي عن عبوب أنفسهم، بل يركزون علي الأمثلة المضيئة وإشاعتها. لكل هذا فإن الحديث عن إعلام إسلامي يكون أشبه بالحديث عن لحم خنزير حلال، لأن الإعلام وقيم الإسلام لا يتلقيان، بل بينهما تناقض جوهري. العذر الوحيد في التلبس بالإعلام هو الضرورة، لأن الإعلام أصبح شراً لا بد منه. وعليه ينبغي أن يتولي أمره البعض حتي لا يقع في أيدي من يكونون أطوع لمنطقه الدافع للولوغ في الإثم.وكان لي اعتراض قوي علي هذا التوصيف للإعلام، الذي قد ينطبق علي صحافة الفضائح وإعلام الإثارة، لكن الإعلام ككل له دور إيجابي بناء لا غني عنه لأي مجتمع، يتمثل في توفير منابر لتبادل الرأي والمعلومات، ونشر العلم والثقافة، ونقد الممارسات العامة وتصويبها. فهو مثلاً يساعد علي تحقيق الإجماع عبر الحوار، ويمكن كذلك أن يقوم بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكنت أكرر ـ ولا زلت ـ أن أكبر علل المجتمعات الإسلامية عموماً، والعربية خصوصاً، هو غياب الإعلام الحر والفاعل الذي يجعل الشعب محيطاً بعلم الكيفية التي تدار بها شؤونه، وقادراً علي إبداء رأيه في الأمور العامة. وذكرت بأن محاولات الحكام لقمع الرأي المخالف، بما في ذلك الرأي في أمور الدين، قد أدي إلي فساد دين المسلمين ودنياهم، وهو المسؤول عما نواجهه من انحطاط.اتفقت وعبدالله شليفر علي أن نختلف، ولا نعدم كلما التقينا أن نعاود السجال. هذا مع العلم بأن الأخ عبدالله يلابس من إثم الإعلام أكثر مما ألابس، كونه كان مشغولاً ليس فقط بممارسة المهنة، بل بتدريب أجيال من الدارسين في حقول الإعلام المختلفة. ولكن آراءه العميقة تحتاج بالفعل إلي تفهم ودراسة متعمقة. فالحديث عن كون الإعلام الحديث له قيم متأصلة لا تنفصل عن بنيته يعبر عن مقولة ترددت كثيراً في السجال الدائر بين دارسي الإعلام (تذكر بهذه العبارة المشهورة لمارشال ماكلوهان حول أن الوسائط هي أيضاً الرسالة في الإعلام الحديث). ولكن هذا الفهم لو تم التسليم به فإنه ينفي بالضرورة إمكانية تحدي القيم السائدة في المنظومة الإعلامية الغربية الرأسمالية من أي منطلق أخلاقي منافس، سواء أكان المنطلق إسلامياً أو غير ذلك. علي كل فإن نقاش للقيم الإسلامية يستلزم التفريق بين مجالين منفصلين، المجال الخاص، الذي يتعلق بالسلوك الفردي للأشخاص، وشؤونهم الفردية والعائلية، والمجال العام، الذي يتعلق بتصريف شؤون العباد. فهناك منطق مقبول، حتي في المجتمعات الغربية العلمانية، يقول بأن الشأن الخاص للفرد ينبغي ألا يكون مضغة لأفواه كل من هب ودب ما لم يتعلق الأمر بمصلحة عامة. وكثير من صحف الفضائح هنا تتحايل بالقول بأن الشؤون الخاصة للشخصيات العامة (أو المعروفة) هي شأن عام. ولكن الأمور العامة هي بالقطع مما يجوز، بل يجب مناقشته علي الملأ.البعض يتوسل القيم الإسلامية التقليدية ليزعم أن المنكرات التي يأتيها الحكام علي الملأ، من ظلم وفساد ونهب للأموال العامة ووضع لها في غير موضعها وخيانة للأوطان، هي من الشؤون الخاصة بهؤلاء الحكام التي يجب أن تناقش في السر مع هؤلاء الحكام، حتي لا تتحول النصيحة إلي تشهير. ولكن هذا منطق معوج، لأن مثل هذه الممارسات أصبحت معلومة للقاصي والداني، بل إن هؤلاء يفاخرون بها. أما المجهول فهو إنكار أهل العلم والرأي لها، مما قد يعطي العامة الانطباع بأن صمت هؤلاء عن هذا المنكر الفاشي هو تأييد ومباركة له، لأن العامة لا علم لهم بأن هؤلاء يمارسون الإنكار وراء الكواليس، بعض أن يقبضوا أعطياتهم من الأمراء طبعاً!قد يصح هذا المنطق في حال المنكرات الخاصة التي يأتيها بعض هؤلاء، وإن كان الأمر حتي هنا يحتاج إلي نظر. فإذا كان بعض الحكام وبطانتهم مثلاً يعاقرون الخمر في السر، بينما يحرمونها علي بقية العباد ويعاقبون من يشربها أشد العقوبات، فهل يصبح فعلهم هذا شأناً خاصاً أم شأناً عاماً.فيما يتعلق بالسؤال الذي كانت هذه المقدمة توطئة للإجابة عليه، ألا وهو سؤال من يحدد القيم والمعايير التي يسير عليها الإعلام، فإنني قلت في ذلك المقام أن هناك مستويين متلازمين في هذا الصدد: الأول هو المستوي المهني، والثاني هو المستوي الاجتماعي. مهنياً فإن الإعلام يعتمد بطبيعته علي مواهب نادرة الوجود في أي مجتمع، ويفرض من ذاته منطقاً معيناً لا يصلح أمره إلا به. ولهذا فإن المهنيين يكونون دائماً في موقع قوة يتيح لهم فرض القيم التي يرون أنها الأصلح والأنسب لأداء مهمتهم. وتعتبر أي محاولة لفرض منطق خارجي يخالف منطق الإنتاج الإعلامي أشبه بقتل الأوزة التي تبيض الذهب بقصد استخراج ما في جوفها. ولهذا السبب نري الأنظمة القمعية التي تجتهد في السيطرة علي الإعلام وتطويعه تكون أول من يخسر سلاح الإعلام، لأن ما ينتج عن تدخلها يكون مسخاً مشوهاً لا يؤدي مهمة.من جهة أخري فإن الإعلام هو في نهاية المطاف جزء من نسيج إجتماعي متكامل، وتحديداً هو من إفرازات المجتمعات الرأسمالية الحديثة. ولهذا فإن منطق رأس المال يحكمه أيضاً إلي جانب المنطق المهني، وتتحكم مصادر التمويل إلي درجة معينة في توجهات الإعلام. وهذا التحكم يكون في كثير من الأحيان في المحتوي أكثر منه في القيم التي تحكم الأداء، وإن كان قد ينعكس علي القيم أيضاً.9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية