لم تعد الانتخابات الأمريكية مثيرة للأعصاب وحسب، بل ربّما أصبحت مملّة قليلاً، ومقرفة أحياناً. فلا بأس إذن بتمرير الزمن الفاصل حتى ظهور نتيجة تلك الانتخابات، من خلال تقليب ظواهر المنطقة، التي لا تنتظر إحداها فوات السابقة حتى تنفجر، بحيث ازدحمت نقاط التوتّر والحرب والصراع، وتحوّلت أسس التحليل من علم الحساب إلى الرياضيات المعقدة.
من ذلك ما طرأ في باب التطبيع مع إسرائيل، والتطبيع مع نظام الأسد، من دون ضجيج كان متوقّعاً جداً في سالف الزمان، بل ربّما بكثير من اللامبالاة وشرود الذهن أيضاً. السوريون أنفسهم لم يثيروا كثيراً من الغبار يوم زار الرئيس السابق للسودان دمشق زيارة خاطفة قبل عامين؛ قبل الثورة التي رحّلته إلى السجن. كذلك لم يحدث هذا مؤخراً مع تفعيل السفارة العمانية في دمشق رسمياً.. وربما بمهمة كمجرّد ساعٍ للبريد يحاول تقاضي أي رشوة تحصّنه على كرسيه. وأيضاً لم تقم الدنيا أو تقعد حين أعلن اتفاق الإمارات وإسرائيل على التطبيع، والبحرين من بعدها.
لدى النظام السوري إحساس كبير بالانتصار على شعبه، وربما على تركيا، بل الولايات المتحدة وأحلافها: الكون المتآمر حسب تعبيره الإعلامي، وهو سعيد بتدهور العلاقات التركية – الخليجية، والتركية- الغربية أيضاً، وسعيد خصوصاً بتدهور أسهم الإخوان المسلمين، الأمر الذي يحسبه سبباً لارتفاع أسهمه، وهو ليس مخطئاً في ذلك. ولا يكفي لطمأنينة الأسد دعمُ بوتين وثوّار الخميني له، وتأييدُ مجاهديّ غزة وحكماء رام الله أيضاً، ومعهم مادورو وكيم وكاسترو (الذي تقمّص في ما بعد) لذلك يرحّب بقدوم عُمان إلى دمشق، تدفعها استراتيجيتها المستندة إلى مفهوم توليد القوة من دور الوساطة، مع إسرائيل غالباً هذه المرة، وربما هي بذلك تُسابقُ الإماراتِ أيضاً. أما التطبيع الخليجي مع إسرائيل؛ الذي يحتمل قريباً انضمام السودان إليه بأحماله الزائدة؛ فله الكثير من الأسباب، كالاستقواء أمام تركيا وروسيا، والتحصّن في وجه الإسلاميين، ولكن خصوصاً من أجل تأمين البلاد والأنظمة في وجه إيران، التي لا تتوقف عدوانيّتها عند حدود حتى الآن. ويؤمّن ذلك تجميع بؤرة الاهتمام الأمريكية والغربية الأولى (إسرائيل) إلى البؤرة الثانية (النفط) والفوز برباط مكين وثابت بينهما. قد يكون مما يغري الإمارات أو عُمان، تقديم تطبيع الأسد عربون صداقة إلى إسرائيل لاحقاً، في توقيت قد لا يتأخر، مقابل التوسط له بشيء من الرضا، الذي يمكن أن يساعده على شراء الوقت، لعلّ السماء تنجده بمتغيّرات تضمن رأسه، ولو إلى حين. ولا بأس هنا بالاستماع إلى البعثي مهدي دخل الله، وأقواله التي صدمت البعض بصراحة موقفها الإيجابي من التطبيع ذاته، ولا بأس أيضاَ في «الإنصات» إلى الصمت البليغ الذي ردّ به النظام السوري على الأخبار الجديدة. وهذا كلّه في طور التكهّن وحسب، رغم كلّ ما يوحي به استعجال أبوظبي إحياءَ سفارتها في دمشق.
يلفت الانتباه ذلك التسارع في اتجاه التطبيع، الذي ينسجم مع معركة ترامب الانتخابية، وانكشاف نتنياهو داخلياً، وحاجته لما يسند عثاره.. ولا يشبه ذلك شيئاً بمقدار ما يشبه ترامب شخصياً، بطريقته في المقاولات السياسية، التي تخرج عن المدرسة التقليدية بقوة، وبتهوّر أيضاً أو على الأغلب، ولو بدا أن في ذلك رهاناً على فرسٍ قد تربح وقد تخسر، فإن عقلية المقاولات الإقليمية لدى «جماعتنا» تساعد على اعتماد ذلك الرهان، بزعم أنه لن يخسر حتى في حال خسارة ترامب، بما سيحتله من مكانٍ في الفراغات الحالية، وسوف يصبح أمراً واقعاً حتى أمام بايدن، الذي ستحاصره الإدارة الإسرائيلية الراهنة عندئذٍ، مسلّحةً بازدواج تركيبتها.
جوهر القضية الانتقال من حالة التأخر إلى حالة التقدم، ومن كهوف الاستبداد إلى فضاء الحرية، بقبول العصر وحداثته وديمقراطيته
ساعدت نخب عربية – وفلسطينية خصوصاً- على تأمين جوٍ غير عدائي لتوجهات التطبيع، حين أصبحت القضية بين أيدي قوى متطرفة- إسلامية في غزة تجمع ما بين علاقتها بالإخوان المسلمين وارتباطها بإيران، ليكون ضعفها مضاعفاً وعجزها بائناً؛ وسلطة رسمية في رام الله، فقدت الشيء الكثير من مكانتها بشكل لا مثيل له إلا – ربما- في أيام النكبة نفسها، في حين غرقت شعوب البلدان المعنية بالأمر في أزماتها الداخلية حتى كفرت بأي قضية، واستفحل أمر أنظمتها حتى استغرقها الفساد والاستبداد، ولجأت إلى الدمار والدماء والجوع، تردّ عن نفسها خطر السقوط.. تلك الأنظمة نفسها، ومثالها الأكثر شراسة في سوريا، لن تكون دعامة لأي درع قديم من قيم الالتزام بالحقوق المشروعة، بل ستكون سبباً للامبالاة شعوبنا كلّها أمام ما يجري. قبل مصر والخليج، ينبغي النظر إلى إيران وتركيا، اللتين تتآلف إحداهما مع الأخرى وتتصارعان بين يوم وآخر في سوريا والعراق، ولا تنقصهما الجرأة عن الاستغراق بعيداً في سوريا، بدعم مسلحين متطرفين شيعة من جهة، وسنّة من الثانية، مع استعداد للمقاولات.. وتدخل خطوات التطبيع عرضانية وسهلة من دون حسبان لشعوب المنطقة. وبالنسبة لتركيا، فربّما ستخسر كثيراً في ما بعد، بسبب تركيزها الزائد على الخطر الكردي على أمنها القومي، بحيث لا تلاحق احتمالات الحل السياسي في تلك القضية ذاتها، ولا تتردد في التضحية بحصتها في أي حقلٍ آخر، ذلك لا ينسجم مع البراغماتية التركية الشهيرة، لا ينسجم أيضاً سلوك الإيرانيين المتفجّر والمغامر مع سمعتهم التاريخية، في مغامراتهم الطائشة في سوريا والعراق واليمن ولبنان.. ومن سخرية الأقدار أن تكون مواجهة هذين «الخطرين» سبباً مقبولاً للتطبيع، الذي نسمع أصداء إدانته واستنكاره في كلٍّ من طهران وأنقرة. وتلك حلقة شيطانية، وبتساوقِ الوجوه والطموحات، وتقابل أو تشابه الميليشيات الوكيلة والأصيلة، يمكن تفهّم اللقاء بينهما، في مسار أستانة السوري سابقاً، أو غيره لاحقاً. آنذاك يمكن أيضاً فهم ما جرى في عامي 2016 و2017 في سوريا، بعد أن تدخّل الروس بكامل عتادهم في خريف 2015، وأسقط الترك إحدى طائراتهم، وحلّ البَين بين موسكو وأنقرة.. بعد ذلك اعتمد الأمريكيون قوات سورية الديمقراطية – الكردية في الأساس، ذات العلاقة بحزب العمال الكردستاني، العدوّ المطلق للحكومة التركية – أداة على الأرض لمحاربة «داعش» ابتداءً من فبراير التالي في تل أبيض، فرأى أردوغان في ذلك طعنة في الظهر، ثم تعامل أوباما بعنجهية معه عند زيارته الولايات المتحدة في مارس، فما كان من الأخير إلا أن اعتذر- من كلّ قلبه- عن إسقاط الطائرة الروسية، قبل أن يواجه فوق ذلك محاولة الانقلاب الخطيرة عليه في يوليو، مع شكّ، له بعض ما يبرّره، بالموقف الأمريكي من ذلك الانقلاب.. فحدثت بعد ذلك نكسة حلب المثيرة للأسئلة، واستعادة النظام لها في نهاية 2016، ليشهد العام التالي مسار أستانة، والاتفاق على أربع مناطق لخفض التصعيد، تمّت تصفيتها كلّها تقريباً من دون ضجة، ورغم تعارض ذلك مع الاتفاق روحاً ونصاً.
ليس هذا بياناً ضدّ التطبيع مع إسرائيل وخطواته، فلذلك زمانه ومكانه دوماً، ولا هو تبرير أو إعذار لمن يقوم بذلك، لكنه محاولة لاستعادة التوازن، نحتاج إلى الكثير منها، فقد كنا- وما زلنا- على حياءٍ في الجهر بأن جوهر القضية ليس في المسألة الفلسطينية، ولا في الوحدة، أو القضية القومية العربية، بل هو في الانتقال من حالة التأخر إلى حالة التقدم، ومن كهوف الاستبداد إلى فضاء الحرية، بقبول العصر وحداثته ومواطنته وديمقراطيته وحرياته وحقوق إنسانه.. وفي أن ذلك هو المدخل إلى أي قضية أخرى، مهما كانت قداستها أو مناعتها، أو حرارة مسارها. لذلك نتوقف أمام مسألة التطبيع مع الأسد، بدرجة اهتمام لا تقلّ عن اهتمامنا بالتطبيع مع العدو القوميّ التاريخي، بل نستعيد جوانب من قانون قيصر، لن تكون رحيمة مع من يستغرق في تطبيعه هذا، فيعطي من ثمّ بعض شرعية زائفة لنظام ما زال أمامه طريق شائك من المحاسبة والمساءلة عن جرائمه.
سوف تدفع شعوب المنطقة – مع أنظمتها للأسف- ضريبة ما حدث حتى الآن، خصوصاً في العقد الأخير، في سوريا خصوصاً، وفي وليبيا واليمن ولبنان والعراق وغيرها.
كاتب سوري
مقال جريء اخ موفق، اوافقك الرأي ان اي نظام لن يدوم ما لم يقم باحترام مواطنيه جميعا، وطالما لن يوفر ديمقراطية حقيقية بدون فساد، هذا كله غير متوفر في نظام بشار الاسد. ترامب يفضل الديكتاتوريون مثل السيسي والاسد وكيم.
زيف الغرب، وتناحر الاخوة الفلسطينيين، ودموية الكيماوي المجرم ابن المجرم بشارون، وهرولة الأعاريب إلى تل أبيب، عناصر اساسية في خذلان الشعوب المقموعة التي لم يهم يهمها سوى لقمة العيش،
شكرا استاذ نيربية