في عيادة الطبيبة، كانت غرفة الانتظار محتشدة، لم يكن هنا سوى مقعدين، بينهما تجلس شابة في مقتبل عمرها. كان أحد المقاعد بجانب سلة المهملات، ولذا جلستُ بعيداً، في الكرسي الآخر. الفتاة التي في مقتبل عمرها كانت تكتب رسائل مستخدمة هاتفها المحمول، حين رأتني بجانبها، وحفاظاً على سرية رسائلها التي من الصعب أن يقرأها من بجانبها أصلاً، انتقلت وجلست بجانب سلة النفايات، بحيث غدا الكرسي الذي بيننا شاغراً، وحين جاء شخص جديد، وجلس بجانبها غادرت غرفة الانتظار لتقف خارجها، في الممر، رغم البرد الشديد في ذلك اليوم!
يخاف الإنسان هنا على أي معلومة متعلقة به إذا كان الشخص الذي بجانبه ملموساً، من لحم ودم، ويشك فيه، ويخشى اقترابه منه، حريصاً على أن تكون هناك مسافة أمان كافية، لكن المفارقة أنه لا يفعل ذلك حين يكشف كل معلوماته وأسراره لذلك الشخص أو تلك الجهة/الجهات التي لا يراها، وهي التي تتابع كل ما يكتبه وتحتفظ بصوره الشخصية ورسائله، بل إنه يعطيها الحق في ذلك، حين يستخدم كثيراً من التطبيقات التي يسمح لتلك الجهات، نظير استخدامه لبرامجها، أن تصل إلى معلوماته الشخصية.
هي مفارقة غريبة في جوهرها البعيد: أنت تسلّم أمرك للمجهول بصورة كاملة، مع أنك لا تسلّم كلمة واحدة لمن يجلس بجانبك، أو من تعرفه، وقد يكون من أقرب المقربين.
كم نحن نخاف من الحقيقي، وكم نحن نُسلّم، بل نتبرع بالاستسلام للمجهول!
عن هذا كتبت ذات يوم، حين أشرت إلى أن الأجهزة المتلصصة علينا اليوم في كل مكان، قد غيّرت طبيعتها القديمة، فبدل العناصر البشرية بنظاراتها السود ومعاطفها الطويلة بياقاتها المرتفعة، أصبحت اليوم إلكترونية، بل تجمعت هذه الأجهزة الحديثة كلها في جهاز واحد، من الهاتف الثابت، حتى التلفزيون، مروراً بالآلة الطابعة حتى اللاسلكي!
في بيتنا وجدت منذ أعوام أوراقاً قديمة، هي وصولات حكومية سنوية لتجديد رخصة الراديو، وعلى ظهرها مجموعة من الإنذارات التي تهدد بالويل كل من لا يرخص الراديو في الموعد المحدد، أو تسوّل له نفسه بالتخلص من الراديو إذا أصابه عطب، كما لو أن أحد أخوتي العلماء سيحوله إلى جهاز لاسلكي، ومن يعرف من سيُخابر!
ولم تكن الآلة الطابعة أقل إثارة للشبهة حينما يفكر أحدهم في اقتنائها، إذ كان عليه أن يبرر ويقدم لائحة بنواياه الطيبة لكي توافق له السلطات العليا على اقتنائها. لذا كنا ننظر إلى هذه الآلة باحترام وتوجّس، كما لو أنها على درجة عالية من التطوّر بحيث تعرف ما يدور في رؤوسنا.
بعد ذلك أتيح لنا أن نتعامل مع الهاتف، وقد كان فعلاً يثير الخوف، إذ دائماً هناك بين الطالب والمطلوب شخص آخر محجوب يتلصص على الكلمات، ويزنها بميزان نباهته الثعلبية وشكّه الدائم في مقاصد المواطن وخفايا عقله ومكنونات قلبه من مشاعر لا تظهر في نبرات صوته!
وكان يزيد من هيبة الهاتف أن على الذي يريد الحصول عليه، أن ينتظر سنوات طوالاً، قد تصل إلى عشر سنوات كي ينضمّ إلى الفئة المنعّمة التي تتباهى بوجوده في البيت، كمرتبة اجتماعية.
وحين وصل التلفزيون بلونيه اليتيمين: الأبيض والأسود، أصبح العالم بالنسبة لنا طبقتين، من يملك تلفزيوناً ومن لا يملك تلفزيوناً.
حين سمعت بناسخة (الستانلس) كنت قد كبرت قليلاً، وكان الحديث عنها في خطورته يوازي عملية تهريب دبابة في حقيبة سفر، إذ اقترنت هذه الناسخة بالأحزاب السريّة والمنشورات، وحين رأيتها للمرة الأولى في معهد المعلمين التابع لوكالة الغوث، وشاهدتها تعمل بنشاط غير عادي في الطباعة، أدركت أنه ما كان يمكن أن تكون في المعهد إلا لأن المعهد تابع لسلطة الأمم المتحدة نفسها. ولو كانت الأحزاب، في تلك الأيام، تملك عشرين آلة منها لوصلنا إلى الحياة الديمقراطية قبل مملكة السويد!
كان الفاكس الذي أطل على حياتنا جهازاً بالغ الخطورة أيضاً، فهو يوصل الرسائل دون أن تمرّ برقابة آذان العاملين في بدّالات الهاتف، ولكن السماح باستخدامه لأي كان، مسألة لم تكن واردة، وأكثر صعوبة من شراء قمر اصطناعي شخصي للاستخدام الحربي أيام الحرب الباردة.
كان الفيديو إنجازاً فذًّاً لمُحبي السينما، وقد كنت منهم على الدوام، رغم أن النسخ التي كنا نشاهدها كانت-بسبب انحدار مستوى وضوحها-سبباً أساسياً في بداية علاقتنا المستمرة المُكلفة مع النظارات الطبية.
حين سمعت عن الـ DVD للمرة الأولى، لم يدهشني فيه سوى شيء واحد، أن هناك ثماني ترجمات في داخله للفيلم، وفي إمكانك انتقاء الترجمة التي تريد. ولم يطل الوقت قبل أن أشاهد أقراص أفلام تضم ثلاثين ترجمة بما فيها لغة الضاد.
لحسن الحظ، أن عمر (الدي في دي) لم يكن أطول من عمر الفيديو بنوعيه، (البيتامكس) الذي انقرض، و(الفي أتش اس) الذي قاوم قبل أن ينقرض كما انقرضت الديناصورات.
وبعد رحلة طويلة من تلفزيون الأبيض والأسود إلى الملون، فالمسطح، فالأشبه بلوحة، وصلنا إلى جودة (البلو ري)، والتي يحقّ للإنسان أن يفتخر أنه عرفها، والتي كان لها فعلها في إعادة قوة الإبصار إلى أعيننا، تلك القوة التي فقدناها في محاولاتنا الحثيثة للتعرّف على ملامح الممثلة أو الممثل في نسخ أفلام الفيديو المُعتمة الشاحبة.
كان لتلك الأجهزة سحرها واحترامها فعلاً، لأن الحصول عليها لم يكن سهلاً، والأهم من ذلك أن لها، إلى حد كبير، شرف الحفاظ على أسرارك إلى حدٍّ معقول، وكذلك نوعية المحطات التي تسمعها أو تشاهدها، والكلمات التي تنقرها على طابعتك.
اليوم، كل الأجهزة في جهاز واحد، اليوم، لك حسابات كثيرة على المواقع الاجتماعية وغير الاجتماعية، وتملك الكثير من كلمات السرّ، لكنك مكشوف تماماً، كيوم ولدتك أمك، لا تملك سرّاً واحداً يمكن أن تقسم واثقاً أنك الوحيد الذي تعرفه.
اليوم.. مائة كلمة سرّ وكل أسرارك مفضوحة!
لكنك رغم ذلك تفضل الجلوس بعيداً بجوار سلة المهملات، على أن يراك شخص تكتب كلمة حب، أو تحية صباح، لشخص آخر لا تعرفه. في حين أن الجاسوس الذي يعرف كل أسرارك يستريح بين يديك المترفقتين به بدفئهما، وكلما أحسست بأنه بات مقصّراً في عمله، أو كلما سمعت عن جاسوس أكثر دهاء طُرح في الأسواق، ذهبت لتشتريه وتضّمه إليك برقة أعلى.
الكاتب أصاب كبد الحقيقة. لم يعد سراً أن حتى الرؤساء هم مكشوفي الأسرار. من الخطأ بمكان أن يرتعد أي مواطن من المراقبة ويقلل من آرائه ونقده. المراقب هو مجرد ذبابة تحمل شريحة إلكترونية صغيرة تصور حتى في الليل الدامس, لكن ليس للمراقب الحق أن يتبلطج أو أن يبتز أو أن يمرر المعلومات إلى أحد. إن غاية المراقبين هو الهيمنة والتخويف والترهيب والإستعباد وليس الأمن فقط.
على المواطن أن يكون حذراً من القانون. وغير ذلك فاليرقص ويغني ويكتب وحتى أن يثرثر في بيته كما يشاء بما في ذلك أن يلعن المراقب وأبو المراقب.
علينا أن نعذر المواطن, المستهدف والمحاصر من قبل ذباب المراقبة مهما فعل طالما هدفه تفشيل إرهاب وحصار ذباب المراقبة. فلا ضير من أن يجلس ذاك المواطن بالقرب من مزبلة طالما غايته أن يتم تعرية المراقب المعتدي وإفشاله.
إذا كان الجلوس إلى جانب خنزير مريض ومليء بالجراثيم يساعد في إتمام رواية تعري المراقب المتلصلص المعتدي, فاليكن. المهم نية المواطن وإخلاصه إلى مبادئه وكفاحه ضد الظلم. هل يتردد الشعب الفلسطيني من الجلوس بين الخنازير والمزابل, إلى حين, إذا كان ذلك يخدم قضية فلسطين؟ بالتأكيد لا. من يخوض معركة حصار وإرهاب, ليس كمن يتكئ على الأرائك ويتفلسف.
لونظرنا بالمقلوب للحال.فهناك جاسوس وسط ألف أومليون…سواء أكان الجاسوس بشرأوجهازأوشيء آخر.فهو يريد أن { ينقضّ } كجدارسورة الكهف لينكشف الكنز، أي ليسبرأسرارنا وخصوصياتنا لأهداف مختلفة حسب التكليف من المركز.لماذا لا نقلب الحال ، ونجعل من هذا الجاســـوس لصالحنا ؟ ليس بالتجنيد المزدوج الموجّه ؛ لكن بالخداع البارد :
دعه يعمل دعه يمرّ…شعارللفرنسي : فنست دي جورناي. وهي :
}daeh yaemal ،daeah yamuru{
فهل الجاسوس يريد المعلومات ؟ هذا من الأخطاء الشائعة بل الجاسوس يريد ( تضاريس ) المعلومات ، وهذه التضاريس هي التي تتحول إلى بيانات وجداول بمنحنيات لتكون قيما ذات أرقام تدرس وتشخّص وتبرمج.من أين يستقي تضاريس المعلومات؟ من ( الانفعالات للشخصية ).أكتم انفعالاتك تكتم أسرارك.لأنّ معرفة تلك الأحاسيس يضعها ضمن جدول الأوّلويات.أما المعلومات فهي موجودة في كلّ مكان ، من شهادة الميلاد إلى شهادة الوفاة.فما هو مفتاح الانفالات في الشخصية اللسان ؟
إذًا : دعه يعمل دعه يمرّوهي بالإنكليزي
} Let him work ، let him pass{
فلن يجد لا حلوولا مرّ.فأخرس اللسان أحسن جاسوس مضاد لهذا لا يسعى الجاسوس نحوأخرس
كلام الأخ سعدون الباهلي صحيح, لكن ليس في حالة معاناة أسير فلسطيني محاصر ومعذب, إذا بقي أخرس, فإن الحصار والعذاب يزداد, لكن عندما يصرخ ويخبر عن الإرهاب ودوس حقوق الإنسان بالبسطار بحجة مكافحة الإرهاب, فإن المعتدي يحسب ألف حساب للرأي العالم. إن الطلب من الأسير أن يخرس هو خيانة للضمير الإنساني. كم من الفلسطينيين الخونة تجسسوا على إخوتهم هنا وهناك من أجل النقود والمصالح, بينما هم يلبسون قبعة المقاومة كذباً وزوراً؟ آن للبوح عن جرائم هذه الجراثيم التي تعيش بين ظهرانينا. إن بعض قصيري النظر ومغلقي العقول يتعصبون لأي فلسطيني, وهذا قمة الضياع والتيه. في العائلة الواحدة هناك أفراد منحرفين, فما بالك بشعب من الملايين؟ شيء طبيعي وجود هكذا جراثيم, لكن الغير طبيعي هو تبني هكذا جراثيم والدفاع عنها.