جورج مارتن، صاحب السلسلة الروائيّة الشهيرة “لعبة العروش”، ٠التي صارت مسلسلاً تلفزيونياً جارف الشهرة كان يتنبأ بمستقبل أوروبا تالياً عندما صاغ عبارته البليغة على لسان نيد ستارك – أحد أبطال السلسلة – بأن “الشتاء المقبل”. وبعكس ستارك، الذي وفق حكاية مارتن، أراد تنبيه قومه إلى ضرورة الاستعداد لشتاء قاس مديد بعد سنوات من صيف طويل، فإن الأوروبيين، الذين عاشوا لعقود طويلة من بحبوحة نسبيّة ومستوى معيشة يحسدهم عليه جيرانهم في الجنوب، على وشك الدخول في شتائهم المقبل دون أن يُعلِقوا على أبوابهم معاطف البرد الذي اشتهر بنخرِ العظام.
وشتاء أوروبا هذه المرّة ليس مجرّد جولة أخرى من صقيع قارس تشبه تلك التي ضربت القارة في 2018، ولا موسماً من اضطراب المناخ لعدة أشهر ثم ينجلي – رغم أن تلك قد تكون بعض جوانب هذا الآتي – بل أزمة اقتصاديّة هائلة تنعكس معضلات في توريد الطاقة والمواد الغذائيّة وركوداً، وتضخماً، وتصحبها اضطرابات اجتماعيّة وسياسيّة واستقطابات، قد تبدو معها أزمة آخر العشرينيات والكساد العالمي الكبير وقتها وكأنها كانت نزهة لطيفة.
الشّتاء، هذه المرّة، لن يكون متلفزاً، وإذا كان ملايين البشر حول العالم تابعوا شتاء “لعبة العروش” على الشاشات، فإن تلفزيونات أوروبا وإعلامها وكأنّها عازمة على تجاهل إرهاصات الشتاء الآتي والتظاهر بأنّ كل شيء على ما يرام. خذ مثلاً سلسلة القمم التي عقدها القادة الغربيّون في أوروبا الأسبوع الماضي. بين الاستعراضات الإعلاميّة وفرص التقاط الصور لزعماء الاتحاد الأوروبي والدول الصناعية السبع الكبرى الغربيّة وحلف شمال الأطلسي، غرقنا كمشاهدين في بحر وهم القوّة والاستقرار. فهذا الجبروت الغربيّ المتمكن من سيهزّه؟
وبينما نغرق في تلك المشاهد، كانت الأمور على الأرض تسير باتجاه آخر تماماً. في بريطانيا مثلاً، تسبب الارتفاع السريع لأسعار المواد الغذائية والطاقة وغيرها من السلع الاستهلاكية في الوصول إلى مستويات غير مسبوقة ربّما منذ الحرب العالميّة الثانية في تكلفة المعيشة للأغلبيّة الساحقة من المواطنين. ووصل التضخم إلى أعلى أرقامه منذ أربعة عقود وهو مرشح للوصول إلى مكانة الأعلى في كل الدول الغربيّة خلال هذا العام، وأن يستمر لأطول فترة مقارنة بها. ويشتكي البريطانيون من تدني قيمة أجورهم بشكل مخيف نتيجة ارتفاع الضرائب وتكاليف القروض الآخذة في الازدياد، مع بقاء أسعار الفائدة عند أعلى مستوياتها منذ أكثر من عقد في وقت تتصاعد الأسعار يومياً. وعلاوة على ذلك، فإن إمدادات النفط والغاز للمملكة – رغم عدم اعتمادها على روسيا بشكل رئيس مقارنة ببقيّة القارة – تحت ضغوط كثيرة ووصل سعر البنزين في محطات الوقود إلى رقم قياسيّ. وحذرت قطاعات صناعيّة عدّة من إمكان توقف الإنتاج وإفلاس الشركات إن استمرت الاوضاع بالتردي سواء لناحية الأسعار أو التوفّر، كما أن المملكة على موعد مع عدد من الإضرابات العماليّة التي بدأت بسائقي القطارات ولن تنتهي عندهم.
وهكذا بينما كان جونسون في قمة الدول السبع بألمانيا يسخر أمام الكاميرات من الرئيس الروسي بوتين ويتعهد بهزيمته في أوكرانيا، عاد إلى بلاده ليواجه واقعاً مظلماً، وها هو أُجبِرَ على الاستقالة من منصبه بعدما وصل حزبه الحاكم نفسه إلى قناعة بأن إنقاذ هذه البلاد غير ممكن على يده.
كلهم جونسون هذه الأيّام
لم يكن جونسون الزعيم الأوروبيّ الوحيد الذي عاد إلى بريطانيا ليواجه عاصفة لا تتحدث عنها وسائل الإعلام إلا لماما. فرئيس الوزراء الإيطالي اختصر اليوم الأخير من الأسبوع الحافل بالقمم وقفل سريعاً إلى أرض وطنه في محاولة لإنقاذ حكومته من الانهيار تحت ضغط شركاء الائتلاف الحاكم نتيجة التململ الشعبي، وفي هولندا تورطت المملكة في لجّة حراك غير مسبوق للمزارعين هناك الذين استخدموا جراراتهم الزراعيّة لإغلاق الطرق ومنع وصول الإمدادات للمحلات التجاريّة الكبرى وعطلوا الأجهزة الحكوميّة بعدما تركوا أكواماً من الفضلات الطبيعيّة أمام مقارها. وفي فرنسا اضطرت حكومة الرئيس ماكرون إلى إصدار قرار بتأميم أكبر شركات توليد الكهرباء في الجمهوريّة كمحاولة للسّيطرة على ارتفاعات الأسعار، وفي ألمانيا شهد اقتصادها الأقوى في أوروبا دخوله أول شهر له منذ سنوات كثيرة في دوامة العجز التجاري، وهناك خشية حقيقيّة من ضربات قاصمة آتية للصناعات الألمانية بسبب مشاكل توريد الطاقة وتضخم الأسعار. ولا تكاد الأوضاع تختلف كثيراً في معظم الدول الأوروبيّة الأخرى اللهم إلا في صيغتها المحليّة فحسب.
كل ذلك، وصدمة الغاز لم تأت بعد
بالطبع فإن عقود البحبوحة النسبيّة في العالم الأوّل لم تنته هذه المرّة بسبب طبيعة النظام الرأسمالي المرتبط بالأزمات الدوريّة، بل بأيدي الحكومات الأوروبيّة التي انخرطت بلا تعقّل في جولات من العقوبات الاقتصاديّة ضدّ روسيا إثر غزو الأخيرة لأوكرانيا لمنعها من الالتحاق بالناتو. افترض الأوروبيّون من أنّ عقوباتهم ستقصّر عمر الحرب، وأنهم سوف يتمكنون من الاستغناء عن النفط والفحم الروسيين، والاستمرار بالحصول على إمدادات الغاز طالما أنهم يسيرون على الخط الحساس بين إرضاء الحليف الأمريكي في دعم أوكرانيا وتجنب استفزاز الروس.
لكن بينما كان الأوروبيون يلعبون أوراق دعم أوكرانيا منذ 2014، كانت روسيا تطوّر بهدوء، ولكن بشكل منهجيّ، برنامجاً لتحويل اعتماد أوروبا على الغاز الروسيّ إلى سلاح استراتيجي. في الأسابيع الماضية، أظهر بوتين استعداده لاستخدام هذا السلاح، حيث قطع أولا الإمدادات إلى بولندا وبلغاريا، ومؤخرا إلى فنلندا، ظاهريا بسبب مطالب بتسديد ثمن الغاز بالروبل. والواقع أنّه من دون إجراءات استثنائيّة وعاجلة خلال الأسابيع والأشهر القليلة القادمة فإن نصف منازل القارة العجوز على الأقل ستكون بلا تدفئة منتظمة، وسيخضع أغلبها لنظام تقنين قاس لا سقف له.
ما العمل؟
على الرغم من اشتهار الأوروبيين بالواقعية السياسيّة – أقله منذ توحدهم في إطار تجربة الاتحاد الأوروبيّ – وتقبلهم لفكرة الوصول إلى القرارات بالتفاهم الجماعي بدل من فرض الرأي وإن استغرقت الأمور وقتاً أطول، فإنهم باندفاعهم وراء الولايات المتحدة لتصعيد الحرب مع روسيا فقدوا ميزتهم تلك فكأنهم أطلقوا النار على أرجلهم بأنفسهم.
سيجد القادة الأوروبيّون بعد قليل أنه لا مفرّ من تقبّل عودة الدبّ الروسيّ إلى ملعب النفوذ والتأثير العالميين، وأن المراهنة على الحرب لكسره ستكون مكلفة لجميع الأطراف. وسيخلصون في وقت ما إلى ضرورة التنازل عن الخطابات الأخلاقيّة العالية التي يرددها السادة أمام شاشات التلفزيونات لمصلحة براغماتيّة تسمح بالوصول إلى تسوية ما توقف القتل والدمار وتعيد الحرارة لأنابيب الغاز والنفط. لكن نافذة الوقت المتوفر لإعادة النظر قبل دخول الشتاء الآتي تضيق يومياً، وما لم يتدارك القادة الأوروبيّون أوضاعهم سريعاً فإن أعياد عيد الميلاد في ديسمبر/ كانون الأول المقبل قد تؤذن ببداية حقبة سيجد فيها الكثير من سكان أوروبا أنفسهم بلا عمل وغير قادرين على دفع قيمة فواتير الطاقة والخدمات العامّة هذا إن توفرت. ألم يحذركم جورج مارتن بأن “الشتاء المقبل”.
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن
والواقع أنّه من دون إجراءات استثنائيّة وعاجلة خلال الأسابيع والأشهر القليلة القادمة فإن نصف منازل القارة العجوز على الأقل ستكون بلا تدفئة منتظمة، وسيخضع أغلبها لنظام تقنين قاس لا سقف له. ” إهـ
توقع صحيح يا أستاذة !
في النرويج عندنا إرتفعت أسعار الكهرباء والغاز والمحروقات والحطب للضعف ,
وقد تتضاعف عند قدوم الشتاء !! ولا حول ولا قوة الا بالله
انجرار اوروبا وراء امريكا ليس وليد غزو روسيا لاوكرانيا و سكوتها كالطفل الخنوع امام كل قرارات امريكا،وهذا الذي كان ينكره الرئيس ديغول الذي اعتبر ان تكون اوروبا موحدة دون رعاية او وصايةرمن امريكا،للننطر الى جلب اوروبا الي المستنقع الاوكراني والتي بدأت المتاعب الاقتصادية تظهر وضخ المال يزداد اكثر على عدة جبهات:جبهة مواجهة التضخم،جبهة مساعدة اوكرانيا،جبهة ازدياد مزانية التسلح و جبهة غلاء مواد الطاقة.
كل عام وقدسنا العربي والكتاب المبدعين وأخص صاحبة المقال والقراء بخير ووافر الصحة والنعمة! مقال يزخر ببيان الخفايا والآزمات والورطات وغرابيل تغطية الشموس, والتخبط السياسي والتظاهر الدبلوماسي في الغرب. كان زملاء العمل في أحدى الشركات الكهربية الإلكترونية الكبرى في ألمانيا يلومون ساستهم وشعبهم من حين لآخر وأيام الهزائم والملمات الاقتصادية وعجزهم عن مشابهة الإنكليز في حكمتهم والفرنسيين في مظاهراتهم وتحصيل مطالبهم أو الإيطاليين في صدامهم. أما الآن فيبدوا أن الجميع عاجزون وغارقون يتمسكون بقشة ويتظاهرون بالتفسح بقارب الحب الأمريكي السبعينياتي!