التقى وانغ يي برئيس مجلس الأمن الروسي، نيكولاي باتروشيف، يوم الثلاثاء الماضي، وفقا لقراءة صادرة عن وزارة الخارجية الصينية، والتقى بعد ذلك لافروف وزير الخارجية الروسي ثم بوتين نفسه. ووانغ يي كان وزيرا للخارجية الصينية بين 2013- 2022، ثم تمّ ترفيعه في المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الذي كرّس قيادة شي جيانغ المطلقة لتلك البلاد الشاسعة الأرض والسكان؛ وأصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، ومديرا للجنة الشؤون الخارجية في الحزب، واتّخذ مظهر الدبلوماسي الأول في الصين. وفي البيان الذي صدر عن ذلك اللقاء الأول جاء أن المسؤولَين اتفقا على مجابهة «عقلية الحرب الباردة، ومواجهة الحلف والمعارضة الأيديولوجية»- وهو انتقاد غير مبطّن إلى حد ما للولايات المتحدة – وبذل المزيد من الجهود من أجل «تحسين الحوكمة العالمية»، في إشارة واضحة إلى طموحات بكين وموسكو المتقاطعة إلى إعادة تشكيل النظام العالمي أو»تصحيحه».
أضفت صفات وانغ يي الحزبية الشيوعية أجواء «سوفييتية» على اللقاء، لم يكن لينقصها إلّا تكريم الضيف بعرض عسكري في الساحة الحمراء. وقابلتها في الوقت نفسه زيارة جوزيف بايدن غير المعلنة مسبقا إلى كييف، ثم حشد رؤساء مجموعة بوخارست -٩ في اجتماع مشهود مع الرئيس الأمريكي وأمين عام حلف الأطلسي. أظهرت الخريطة المشتركة لتلك البلدان إحاطتها المحكمة بروسيا، عبر أوكرانيا وبيلاروسيا. يعكس هذا توتّرا لم يشهده العالم منذ زمن الحرب الباردة، مع بعض الحرارة الإضافية من نيران الحرب على أوكرانيا، ويعكس أيضا تهديدا ببناء تحالف بين الصين وروسيا للضغط على الولايات المتحدة للتخلّي عن استبدادها بالقطبية الواحدة، وإعادتها إلى تلك المتعدّدة.
الصين ليست روسيا، وليس من الحكمة جمعهما في سلّة واحدة، رغم ظاهر الصورة الذي يجعل من روسيا بلدا أقرب إلى الغرب والليبرالية، ومن الصين مجرّد بلد شيوعي
كان فرانسيس فوكوياما الأكاديمي الأمريكي، قد هلّل بعد انهيار جدار برلين 1990 لانتصار العولمة الليبرالية النهائي، وانتهاء مرحلة الحرب الباردة. وقد اندفع سياسيون عديدون في الغرب إلى أمام، بتأثير تلك النشوة العارمة، حتى وصلت ذروتها مع «لنجعل أمريكا عظيمة من جديد» و»أمريكا أولا»، مع المقاول والإعلامي الإشكالي الملياردير دونالد ترامب. هل نستشهد بحديثه عن» الفيروس الصيني» مثلا؟ أم عن علاقته الملتبسة مع بوتين؟ قالت أكاديمية من جامعة بروكسل الحرة: «كان يُنظر دائما إلى الولايات المتحدة على أنها قوة استقرار في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية». «من منظور أوروبي، تأتي الصدمة من حقيقة أن الولايات المتحدة يُنظر إليها الآن على أنها قوة مزعزعة للاستقرار، مثل روسيا، ومن المفارقات أن يجعل ذلك الصينَ تبدو أكثر اعتدالا». وهذا رأي له شعبيته، لأنّ العالم لم يعد قادرا على تجاهل قوة الصين الاقتصادية الهائلة، ومطالباتها السياسية التي كانت تزداد وضوحا بالتدريج في السنوات السابقة. حدث هذا في وقت لم يعد كافيا فيه اللجوء إلى اتهام الصين بسرقة حقوق الملكية، وكأنهّا بلد عادي الحجم والمفعول. وبالتأكيد ساعدت تلك الأجواء شي جيانغ على الإمساك بالسلطة بيد من حديد.. في صورة لشيوعية الصين كاد العالم ينساها.
أثناء تصميم منظمة الأمم المتحدة من قبل المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، أُضيفت الصين لعضوية مجلس الأمن، السلطة الأعلى دوليا وتُعتبر قراراتها بمثابة القانون، ومُنحت صفة العضوية الدائمة وحق الفيتو، لتقف في وجه اليابان إذا فكّرت في استعادة إمبراطوريتها العدوانية، وفي وجه الاتحاد السوفييتي الخصم القادم ضمنيا؛ كما مُنحت تلك العضوية لفرنسا التي قضت معظم سنين الحرب وهي محتلّة من قبل الألمان، لتشكّل مع بريطانيا سدّا مباشراَ أمام أي احتمال ألماني جديد. عضوية الصين في ذلك الوقت كانت للكومنتانغ وزعيمه تشان كاي تشيك، الذي احتفظ بها حتى بعد هروبه وحكومته إلى جزيرة فورموزا التي أصبحت تايوان في ما بعد. ولم تستردّ حكومة الصين الشيوعية ذلك المقعد إلّا بعد زيارة كيسنجر ونيكسون الشهيرة إلى بكين في مطلع السبعينيات، التي كرّست الحق باعتبار تايوان جزءا من البلد الأم.
الصين ليست روسيا، وليس من الحكمة جمعهما معا في سلّة واحدة، على الرغم من ظاهر الصورة الذي يجعل من روسيا بلدا أقرب إلى الغرب والليبرالية، ومن الصين مجرّد بلد شيوعي غارق بالأيديولوجيا والطموحات الطبقية. فروسيا كانت لفترة طويلة أمّ الشيوعية وحكم السوفييتات، وعجزت عن الاستمرار كذلك، فطرحته جانبا واندفعت في تصفيته وبيعه من دون مزادات عمليا، وخلقت بلدا يصعب وصفه تماما، فيه من القومية المتطرفة المؤسسة على أمجاد روسيا القرن التاسع عشر، والفساد المستشري، والطموحات المتجددة بقوة الترسانة المسلحة التقليدية والنووية، ما يكفي لتفخيخ العالم.. حتى جاء بوتين وخلط ذلك بتركيبة أيديولوجية ملائمة لاستبداده بالأمر، تستند إلى العصبية القومية، بتركيبة ليبرالية جديدة، وأوليغارشيا فائقة الثراء، بديلا عن» الاشتراكية الروسية» المنتهية الصلاحية، إضافة إلى الأمم المتحدة وتفريعاتها، أنشأ الغرب مؤسسات لتحميه وتنظّم أموره، كانت إضافة إلى الحلف الأطلسي ثمّ الاتحاد الأوروبي، منظمةَ التجارة العالمية ذات النظام الصارم، الذي لم ينفتح أمام الصين ويقدّم لها التسهيلات إلّا في عام 2001 وأمام روسيا عام 2012. ولم يكن الاقتصاد الروسي قويا إلى درجة تشكيله تهديدا حقيقيا لمصالح الآخرين، ولكن الاقتصاد الصيني كان كذلك، وتزايدت قوته بالتدريج، وبهدوء وخطى واثقة صبورة. كان من الضروري إدماج الصين بالنظام الدولي بشكلٍ يتناسب مع تأثيرها، يعطيها ويأخذ منها التزامات مقابلة. وبالخصوص كان ذلك تطورا طبيعيا لدخولها منظمة التجارة العالمية، بعد أن أخذت معالم وجه بوتين تزداد وضوحا. كان ينبغي التعامل مع خطر الحرب التجارية مع الصين، بشكلٍ أكثر انسجاما وواقعية في حقل السياسة الدولية.. ربّما! في ما بعد، استثمرت الصين جيدا في مشروع الحزام – طريق الحرير- وحقق لها مكاسب عديدة، بمعزل عمّا طرأ من عقبات على ذلك المشروع مؤخّراَ. كان دونالد ترامب مندفعا باتجاه تسهيل التدهور، وانعكس ذلك بتأكيده مرارا على خطر الالتزام مع منظمة التجارة العالمية، وسماها «كارثة»… وفي حين كان يمكن اختيار استراتيجية أكثر أمانا في عهد الرئيس بايدن، إلّا أن إدارته اندفعت في الاتّجاه المقابل بتسرّع يهدف إلى تصفية الاهتمام بمواقع قديمة كأوروبا والشرق الأوسط، نحو تركيز على الشرق الأقصى والمحيط الهادئ. كله له مقوّماته، ولكن ليس من دون اعتدال وحسابٍ مركّب. وعلى الرغم من ذلك التوتّر الكامن في خليج الصين ومسألة تايوان، إلّا أن تسارعه كان أضعف من تسارع عدوانية روسيا بوتين، التي اندفعت في التصعيد حتى التورّط في حرب كبيرة على الأرض الأوروبية، بغزوها لأوكرانيا، بعد تجاربها الحربية في أكثر من مكان، خصوصا في سوريا. وكان ينبغي الاشتغال بإيجابية أكبر على دور للصين لا ينتظر عجزها عن أن تجد ثغرة للدخول، إلّا من خلال التنسيق مع روسيا وتطوير حلفٍ محتمل معها، تستخدم فيه حاجة بوتين وزلينسكي إلى حل يحفظ ماء الوجهين.
يحدث هذا في أجواء دولية عزلت بريطانيا نفسها فيها عن الاتّحاد الأوروبي في فورة قومية وشعبوية، ونمت فورة مماثلة في إيطاليا، وتزايدت قوة اليمين المتطرّف في فرنسا وأكثر من مكان، وحلّ العداء للمهاجرين والإسلام مكان التسامح والليبرالية وحقوق الإنسان، وأنهك دونالد ترامب شمال أمريكا والعالم معه.. ولا تلوح بارقة تبشّر باتّجاه معاكس حتى الآن! وقد قسَّم التقرير الأخير لمؤتمر ميونيخ دولَ العالم إلى معسكرين؛ أولهما تُمثله الدول الديمقراطية، في حين يضم الآخَر ما وصَفها بـ»النظم الاستبدادية»، التي تشمل روسيا والصين وغيرهما. وبحسب التقرير، فإن المعسكرَين ينخرطان في تنافس كبير لصياغة النظام الدولي ورسم ملامحه، معتبرا أن هذا هو خط الصدع الرئيس في السياسة العالمية اليوم. وأشار ذلك التقرير أيضا إلى تزايد جهود القوى التصحيحية أو التعديلية، معتبرا أن روسيا والصين على رأس هذه القوى التصحيحية، وواصفا الحرب الروسية ضد أوكرانيا بأنها «في منزلة هجوم على المبادئ الأساسية لقواعد النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية». كان وانغ يي نفسه بين حضور ذلك المؤتمر ونجومه، ربّما لأنّ هنالك خيطا من الأمل المتبادل بأن تلعب الصين دورا أبعد- بقليل- عن روسيا، حتى فيما يخصّ الحرب والسلام في أوكرانيا.
كاتب سوري
بعد انهيار الإتحاد السوفياتي أوهم منظروا الحضارات شعوب الغرب بانتهاء الحاجة للعالم الإسلامي بوجه روسيا والصين لأنهما أصبحتا أقرب لحضارتهم من المسلمين ولكن لم يمر عقدين ليدركوا استحالة دمج روسيا والصين بنظام عالمي حيث عادتا لتجاهل قانون دولي وانتهاك سيادة دول مجاورة وثرواتها والسعي لحكم الكوكب فعاد الغرب لمغازلة 49 دولة إسلامية ممتدة عبر العالم فيها أهم ممرات تجارة دولية بري وبحري وجوي وأهم ممرات كوابل اتصالات دولية وأكبر احتياطات وإنتاج نفط وغاز وهي أهم موارد استراتيجية لتسيير إقتصاد العالم الحر