لم أعد إلى الكتب التي كنت قرأتها في ما مضى من سنوات. هذه المئات، بل ربما الآلاف التي تحتل خزائنها مساحة لا بأس بها من بيتي، لا معنى لوجودها إلا كونها شاهدة على تعلّقي المستمر بالقراءة. ما زالت محفوظة عندي. وليس هذا بالأمر الهيّن ما دمت لم أحتفظ بشيء مما كنت ارتديته أو أقتنيته (مثل الأقلام وساعات اليد والقداحات التي اقتنيتها في سنوات ما كنت أدخّن، وشهادات فوزي في الامتحانات الرسمية، وبطاقات الهوية المختلفة الأشكال، وصوري من أعمار مختلفة، والرسائل الغرامية القليلة على أي حال). لم احتفظ إلا بالكتب، تلك التي كان أولها ديوان المتنبي، الذي يعود إلى زمن ما كان ثمن أجزائه الأربعة ستّ عشرة ليرة فقط. هو الآن في الرفّ الأعلى من المكتبة وسأحتاج لأصل إليه أن أستعين بالسلّم. وقد قمت بذلك مرّأت، لا لأقرأ، بل لأفتح غلافه فقط وأنظر إلى خطّ يدي كيف كان وأنا في ذلك العمر المبكّر. أقرأ اسمي أولا، ثم ذاك التصريح المرفق به والذي يعني أن الكتاب هو لي، ملكي، وأن السنة هي 1964.
ديوان المتنبي مقفل إذن، والأبيات التي زدتها على ما حفظته منها في ذلك العمر هي مما كان أصدقاء لي يرددونها أمامي في السنوات التي لحقت. ذاك أن قراءة الكتاب تحدث مرة واحدة، ونحن نتركه هناك، في الزمان الذي تركناه فيه. أما في ما خصّ المكان فهو هنا عندي، أقصد بين الكتب الكثيرة التي لم أعد إلى قراءتها هي أيضا. لذلك أجدني غير مصدّق ما صرّح به كتّاب مشهورون من أن بعضهم قرأ «ألف ليلة وليلة» عشرين مرّة، وبعضا آخر منهم احتفظ بكتاب «الأمير الصغير» على الطاولة الملصقة بسريره ليعود إلى قراءته كل يوم.
مرّة واحدة يكون الكتاب معي ثم يذهب من بعدها إلى مستقرّه في المكتبة. في أحيان أفكّر أنني كنت، لشدة تعلّقي بما أقرأ، أعد نفسي بأني سوف أرجع إلى هذا الكتاب. وما يؤكّد وعدي ذاك هو أنني كنت لا أقرأ إلا وقلم الرصاص في يدي. ذلك من أجل أن أعلِّم تحت السطور التي تعجبني خطا أنبّه به إلى أن هنا شيئا مهمّا.
الآن أجدني متذكّرا خطّ الرصاص آخذا المقطع من أوّله إلى آخره. أغلب ما أتذكره من ذلك، أو ما زلت أتذكّره، قراءتي لروايات نجيب محفوظ الذي كان يخطر له أن يقطع سرده من أجل أن يُدخل جملة ذات طابع فكري، أو تأمّلي، أو فلسفي. هذه الفكرة التي تجذبني يجب ألا تمرّ هكذا، كنت أقول. ولتأكيد ذلك، ها إنني أعيّنها (من التعيين)، أو أبقيها، أو أدلّ عليها. لكن لأدلّ مَنْ، حيث لم يكن في ذهني أحد أعيره الكتاب ليقرأه من بعدي.
لمن كنت أضع تلك الخطوط إذن؟
أو لمن ما زلت أضعها الآن وقد بتّ، عند نهاية قراءتي لكتاب، أشعر بالسعادة لأنني أنهيته وبات بإمكاني التخلّص منه. ففي هذه المرة لن يكون حظّه مثل حظوظ الكتب التي سبقته لأني سأوزّعه طالما أن رفوف المكتبة لم تعد تتسع لأي وافد جديد. لكن مع ذلك أراني، بعد تقليب الصفحات الأولى، أروح أسأل نفسي أين وضعت القلم الرصاص، وذلك من لحظة ما أقع على جملة تعجبني.
أشياء كثيرة، لا بدّ، كان سيجيب بها خورخي لوي بورخيس، أو ألبرتو مانغويل الذي ذهب مذهبه، لو سئل أحدهما عن ذلك. كان كل منهما سيقول أشياء مهمّة، لا بدّ، إذ أمضيا عيشهما مفكّرين بما تجلب لهما الحياة بين ذلك الكم الهائل من الكتب. لكن، في ما خصّني، لم أجد عن ذلك إلا أجوبة سريعة لا يلبث كل منها أن يزول ليحلّ محله جواب سواه. فمرّة أقول إنني، صغيرا، أحببت منظري جالسا مع الكتاب وبيدي قلم رصاص أعيّن به ما يعجبني، شأن ما يفعل الكتّاب المخضرمون. ومرّة أقول إني كنت أعيّن ما يعجبني في القراءة وما لا يعجبني. ثم، في مرة ثالثة، أقول إنني كنت أفعل ذلك لأن لا أحد بجانبي، أثناء القراءة، لأنقل إليه هذه الجملة، فأسجّلها. وفي مرّة أخيرة، وهي آخر ما بتّ مقتنعا به، أقول إن غرضي من تلك الخطوط التي وضعتها لا تبعد كثيرا عما كان يخطّه المتقاتلون أيام الحرب على الحيطان، كمثل: أبو الليل مرّ من هنا.
كاتب لبناني