بتاريخ 29 نيسان 2012، وقّع وزير النقل العراقي (وهو حينها هادي العامري زعيم منظمة بدر وهي جزء من المجلس الإسلامي الأعلى في العراق) مع وزير المواصلات الكويتي اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله، والتي لا تتضمن أي ترسيم للحدود البحرية بين البلدين لما بعد النقطة الذي انتهى اليها قرار مجلس الامن رقم 833 لسنة 1993 (وهي العلامة رقم 162). وقد صادق مجلس الوزراء العراقي بجلسته رقم 47 المنعقدة بتاريخ 12 تشرين الثاني 2012 على هذه الاتفاقية. وبعدها صوّت مجلس النواب عليها بالأغلبية البسيطة بتاريخ 22 آب/ أغسطس 2013 بموجب القانون رقم 42.
وفي عام 2014 طعنت عضوة في مجلس النواب عن تحالف دولة القانون (أي التحالف الذي يرأسه رئيس مجلس الوزراء الذي صادق على الاتفاقية) بهذه الاتفاقيةـ لتصدر المحكمة الاتحادية العليا بتاريخ 28 كانون الأول 2014 قرارها المرقم 21/ اتحادية/ 2014، وقالت في دعواها إن الاتفاقية «جاءت مذلة للشعب العراقي» وبأنها تضمنت «مخالفات لأحكام الدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب وأحكام القانون الدولي» لأنها تضمنت «التنازل عن الحدود البحرية لبلدنا إلى دولة مجاورة وهي «دولة الكويت» وحولت العراق إلى دولة مغلقة بحريا» وأن «التصديق على هذه الاتفاقية منح الكويت التمدد البحري في اتجاه سواحلنا» وانّ البرلمان قد أقرّ بذلك بسيادة الكويت على خور عبد الله وما يترتب عليه من خسارتنا للمنصات البحرية العائمة، وأن هذه الاتفاقية تمثل انتهاكا لأحكام المادة 61/ رابعا من الدستور التي قررت أن «تُنَظّم عملية المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بقانون يُسَن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب».
وقد ردت المحكمة الاتحادية هذه الدعوى، وجاء في قرارها أنه لدى الرجوع إلى الدستور نجد أنها تنص على أن من اختصاصات مجلس النواب «تنظيم عملية المصادقة على المعاهدات الدولية بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب» وأن هذا النص «يخص الأغلبية بالثلثين لتمرير قانون المصادقة على المعاهدات التي تبرم بين العراق ودول العالم الأخرى وليس لتمرير المصادقة على قانون الاتفاقيات الخاصة الدولية التي تبرم بين العراق وغيره من الدول، وأن ذلك يتطلب الأغلبية البسيطة لأعضاء مجلس النواب الحاضرين استنادا للمادة (59/ ثانيا) من الدستور»! وانتهي القرار إلى أن الدعوى «غير مستندة إلى أساس دستوري أو إلى القانون. أما الطعن بالاتفاقية بأنها أضرت بالجانب العراقي… فإن الطعن المثار بهذا الصدد لا يدخل ضمن اختصاص المحكمة الاتحادية العليا».
عندما يحكم التسييس والتدليس القضاء، وتصدر القرارات القضائية تبعا لإرادة الفاعلين السياسيين الأقوى، ومصالحهم، ومصالح حلفائهم، وتبعا لتحولات تلك المصالح، دون اعتبار لما تفرضه أحكام الاتفاقيات الدولية بهذا الصدد، فهذا تهافت للسياسة وللقضاء معا
وقد تشكلت لجنة للتحقيق عام 2017 في «اتفاقية خور عبد الله» في مجلس النواب بموجب الأمر النيابي رقم 77، كان جميع أعضائها ينتمون إلى التحالف الوطني، الذي يضم جميع القوى الشيعية الممثلة في مجلس النواب، وأوصت هذه اللجنة بأنه «على مجلس النواب تكليف فريق قانوني ومن الخبراء في مجال ترسيم الحدود بإقامة دعوى قضائية لدى المحكمة الاتحادية للطعن بالاتفاقية كونها مخالفة للدستور»! وبعيدا عن فضيحة أن تكون النائبة نفسها التي طعنت بالاتفاقية لدى المحكمة الاتحادية عضوا في هذه اللجنة التحقيقية، فإن الفضيحة الأكبر هي أن توصي اللجنة برفع دعوى طعن بالاتفاقية مع علمها بأن ثمة قرارا ملزما للسلطات كافة أصدرته المحكمة الاتحادية مفاده أن هكذا طعن لا يستند على أساس من الدستور!
بعد 9 سنوات من ذلك، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا في 4 أيلول 2023 قرارها المرقم (105/ وموحدتها 194/ اتحادية/ 2023) بشأن دعوتي طعن منفصلتين، تقدم بها نائبان في مجلس النواب العراقي. وقد ضمت المحكمة الدعوتين في دعوى واحدة. وكان من بين الأسباب الكثيرة لهذا الطعن أن مجلس النواب لم يتبع «الإجراءات اللازمة للتصويت على القانون محل الطعن المنصوص عليها في المادة 61 من الدستور باختصاص مجلس النواب بتنظيم عملية المصادقة على المعاهدات بأغلبية ثلثي عدد أعضائه وهو ما لم يتحقق في جلسة التصويت على القانون المنعقدة في 22 آب 2013 حيث صوّت 122 نائبا فقط لصالح إقراره مقابل 80 نائبا ضده، ومن أصل المجموع الكلي لعدد أعضاء مجلس النواب البالغ (329) نائبا، مما يعني عدم تحقق الأغلبية اللازمة لإقرار الاتفاقية السيادية». وأن اعتماد مجلس النواب على المادة 59/ ثانيا للمصادقة على الاتفاقية بالأغلبية البسيطة لا ينطبق على حالة التصويت على القانون. وهذا يعني أن الطاعن لا يطعن عمليا بالاتفاقية فقط، بل يطعن بقرار المحكمة الاتحادية العليا الذي لا يقبل الطعن! لأن قرار المحكمة الاتحادية أوضح بشكل لا لبس فيه ان المادة 61/ رابعا إنما تتعلق بالتصويت على قانون المصادقة على المعاهدات وليس لتمرير المصادقة على قوانين الاتفاقيات! كما أن القرار أوضح أن التصويت على الاتفاقية بالأغلبية البسيطة تم بموجب المادة 59/ ثانيا من الدستور، وأن لا إشكال في ذلك!
وكان قرار المحكمة الاتحادية العليا هذه المرة، وبعد نص إنشائي طويل لا علاقة لها بموضوع الدعوى، وسرد تاريخي لا معنى له يعكس تسيُّسا فاضحا، ثم انتهت المحكمة إلى أنه «وعلى الرغم من أن الدستور قد خص مجلس النواب باختصاص المصادقة على المعاهدات الدولية، لكن اشترط الدستور أن يتم ذلك بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب، لذا فإن عدم تحقق النصاب المذكور يجعل القانون الذي يصدر بشأن عملية المصادقة على المعاهدات الدولية مشوبا بعيب شكلي يخل بدستوريته، وهذا العيب يستنتج من عدد النواب الحاضرين البالغ (172) نائبا بالقياس للعدد الكلي لمجلس النواب والذي لا يمكن أن معه أن تتحقق أغلبية الثلثين»! ثم لتأتي على ذكر القانون المعاهدات رقم 111 لسنة 1979 الذي لم يرد ذكره في قانون رقم 42 مطلقا، ولم يرد في قرار المحكمة العليا السابق، وفي تدليس فاضح، لتستند إلى أن هذا القانون يخالف أحكام الدستور، لتنتهي إلى الحكم بعدم دستورية قانون المصادقة على اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله.
لا يمكن فهم هذا التناقض بين قرارين صادرين عن المحكمة الاتحادية العليا، وكل هذا التدليس، إلا في السياق السياسي الذي حكم إصدار كل منهما! ليس السياق السياسي المتعلق بعلاقات القوى وتوجهات القوى السياسية فقط، بل بسياق أشمل يتضمن الصراع على الحدود البحرية شمال الخليج العربي بين الدول الثلاث العراق والكويت وإيران، وانضمت اليهما المملكة العربية السعودية بعد توقيعها على اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بينهما عام 2020، وبالتحديد بعد صدور بيان مشترك كويتي سعودي في 3 آب 2023 أعلنا فيه «أنهما المالكان الوحيدان لحق الدرة الغازي» وهو الحقل الذي كان موضع صراع امتدّ لأربعة عقود بين الكويت وايران.
عندما يحكم التسييس والتدليس القضاء، وتصدر القرارات القضائية تبعا لإرادة الفاعلين السياسيين الأقوى، ومصالحهم، ومصالح حلفائهم، وتبعا لتحولات تلك المصالح، دون اعتبار لما تفرضه أحكام الاتفاقيات الدولية بهذا الصدد، فهذا تهافت للسياسة وللقضاء معا!
كاتب عراقي