عن «القيامة العتيقة» وخطورة إعلام جماهيري مرجعيته الربح

حجم الخط
0

منذ أن قدمت منصة البث الرقمي للأفلام نيتفليكس سلسلتها الوثائقية المعنونة بـ «القيامة العتيقة (Ancient Apocalypse)» في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وهي موضع انتقاد حاد من قبل أكاديميين ومؤسسات علمية وصحافيين اعتبروا المنصة قد تساهلت مع شخصية جدلية، هي معد ومقدم السلسلة غراهام هانكوك، وسمحت له بنشر ادعاءات طالما اعتبرتها المؤسسات الأكاديمية في موضع الدجل والخزعبلات.
وقد استلمت إدارة نيتفليكس الشهر الماضي مراسلة رسمية من جمعية الآثار الأمريكية حول السلسلة، اتسمت لهجتها بالسخرية والمرارة، حثتها فيها على إعادة تصنيف «القيامة العتيقة» بكونه منتج «خيال علمي» بدلا من «وثائقي»، بحجة أنه «ينتقص من قيمة علم الآثار، ويحط على الملأ من قدر العلماء المتخصصين به». كما اعتبرها خبراء متخصصون «محاولة خطيرة لبيع الإثارة من خلال تشويه سمعة العلم والأكاديميا»، و»نشر لأفكار مؤامرات مزعومة تتبعها عادة فئات محددة ومعزولة عبر الإعلام الجماهيري الذي يصل إلى كل بيت». وشنت صحف مرموقة مثل ذي غارديان البريطانية هجوما قاسيا على المنصة والسلسلة التي وصفتها بـ «المنافية للعقل»، و»المادة الأكثر خطورة على نيتفليكس». وانتقل علماء آثار بارزون مثل أندريه كوستوبولوس، الآثاري المرموق والبروفيسور في جامعة ألبيرتا، وغيره من مكافحي التضليل بالمعركة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث قدموا تفنيدا – تفصيليا أحيانا – لبعض ما ورد في السلسلة مما اعتبروه «مغالطات» و»تهافت منطق».
في الوقت ذاته حصلت السلسلة على أكثر من 25 مليون مشاهدة خلال أسبوع واحد فقط من إطلاقها، وقفزت سريعا إلى قائمة أفضل عشرة عروض على نيتفليكس في 31 دولة، بما فيها بريطانيا، البلد الأم لغراهام هانكوك، على الرغم من أن نيتفليكس لم تعط السلسلة حقها وفق ما كتبت أسبوعية سبيكتاتور البريطانية التي دافعت بشدة عن هانكوك، ووصفت نظرياته حول الحضارات القديمة بالرائعة والمغرية والمعقولة والمدروسة جيدا!

قيامة عتيقة أم دجل متلبس لبوس العلم؟

سافر هانكوك (الذي يحرص على وصف نفسه دائما بأنه صحافي يبحث عن أجوبة، لا عالم آثار) إلى كثير من المواقع الأثرية القديمة في جميع أنحاء العالم والتقى بأشخاص كثيرين على معرفة بها، وخلص إلى نظرية مفادها أن التاريخ القديم ما قبل التاريخ كما هو متداول حاليا يقصر عن تفسير كثير من تراث الحضارات العتيقة، ولذلك فهو، مسترشدا بالأساطير القديمة – التي تتشارك العديد من الخيوط الأساسية عبر ثقافات متباينة واسعة الانتشار – يفترض أن تقنيات الحضارات البشرية التي عرفتها مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين وأمريكا الوسطى في الرياضيات والفلك والهندسة المعمارية والزراعة وغيرها، كانت في الواقع نتاجا انتقل، عبر أشخاص غامضين، من ثقافة متقدمة ضائعة أقدم من العصر الجليدي ازدهرت في عدة مناطق على الأرض قبل أن تغرقها كارثة طبيعية هائلة على نسق طوفان عظيم تولد عن سقوط مذنبات متعددة ضربت الكوكب قبل حوالي 12000 عام. ويقدم هانكوك في الحلقات التلفزيونية الست، التي تتكون منها سلسلة «القيامة العتيقة»، خلاصة أفكاره تلك متنقلا من أندونيسيا إلى تركيا، ومن مالطا إلى المكسيك ليقدم مواقع أثرية يقول إنها تثبت مزاعمه بشأن تلك الحضارة العتيقة المفقودة.
وفي الحقيقة فإن فرضية هانكوك الأساسية قديمة قدم قصة أفلاطون الرمزية عن أتلانتس، حيث حضارة قديمة بناها أنصاف آلهة قبل أن يغرقها الأرباب وهي في قمة مجدها في المحيط الأطلسي كعقاب على جشع مواطنيها وغطرستهم، لكنه يستجمع حكايات مواقع أثرية أخرى احتوت على تقنيات بناء في أطر معينة تجعل من الصعب تقديم تفسير مجز لها، مما يسهل للمتابع غير المتخصص قبول نظرية هانكوك المثيرة كتفسير بديل.
لكن السلسلة ذهبت إلى أكثر من محاولة تقديم الدلائل على نظرية مزعومة، وتحولت بشكل ما إلى آلية لمهاجمة «الموقف المغرق في الإنكار والمتغطرس والمتعالي للأوساط الأكاديمية السائدة»، ليزعم هانكوك بأن علماء الآثار التقليديين و «ما يسمى بالخبراء» يخشون أدلته لأنها «تشكك في كل ما أخبرونا به عن عصور ما قبل التاريخ للبشرية».
وقد اعترض كثيرون على تصور هانكوك ووصفوه بـ «الساذج» حول (الأوساط الأكاديمية) التي يهاجمها كمؤسسة مصمتة متجانسة تدفع بسردية معينة ويساهم جميع الأكاديميين بالدفاع عنها بسلفية لا هوادة فيها. وقال بعضهم بأن هذه النوعية من الأفلام الوثائقية تظهر العلماء بمجموعهم كثُلة أوغاد أشرار، تجمعهم منظومة مافيوية الطابع حيث لا يوجد شيء اسمه الحرية الأكاديمية ولا تحدث فيه جدالات عميقة.
والمشكلة الأكبر، كما يقول كوستوبولوس مثلا في معرض انتقاده للسلسلة، هي أن الكثير من «أدلة» هانكوك مضللة بشكل صارخ إن لم تكن محض تلفيق، حتى وإن غلفت بشكل مغر. «لقد رأينا هذا مرارا وتكرارا: سرد مثير، فيلم وثائقي محكم، إنتاج مؤثر، ومقدم استفزازي يمكنها معا أن تطغى على كل تفكير عقلاني»، لكنك إذا عرضت السلسلة للتدقيق العلمي الصارم، وهو أمر لا يطيقه بالطبع أغلب المشاهدين ولا يملكون أدواته، فإن الادعاءات في «القيامة العتيقة» لا تصمد كثيرا. لا شك أن طرح الأسئلة الاستفزازية من نوعية (ماذا لو كان؟)، وكذلك النظريات الجريئة لتفسير الوقائع تمثل الجزء الأسهل من العلم. «ما يهم بالفعل هو ما نفعله بالنظرية، حيث ينبغي لعلماء الآثار تقييم اتساقها الداخلي من خلال الحجة والمنطق، واختبارها مرارا وتكرارا ضد الأدلة «.
هانكوك ليس جديدا بالطبع في عالم الثقافة الموازية، وهو يعتاش منذ عقود من إلقاء المحاضرات وبيع كتبه الكثيرة حول تفاصيل نظريته تلك، وله جمهور من النوع المولع بالخفايا والمؤامرات يتابعه بانتظام، لكن مكمن الخطورة في طرح «القيامة العتيقة» على شبكة نيتفليكس هي أن المنصة قدمته لأول مرة على صعيد الإعلام الجماهيري ليحوز فرصة استثنائية لعرض بضاعته المثيرة للجدل بشكل بصري مؤثر على مليارات البشر في كل مكان.

الإعلام الجماهيري: أي مرجعية للمحتوى؟

سلسلة «القيامة العتيقة» هي مثال آخر على اتجاه ثقافي أوسع ينكر الخبرة وقيمة العلم، كان ازدهر وقت تكشفت فضائح الإعلام العالمي والمؤسسات في الغرب وانخراطها في التلفيق والتغطية على جرائم الحكومات ما أطاح بثقة الجمهور بها إلى أدنى مستوياتها تاريخيا. وكان طبيعيا في ظل ذلك أن تتسرب مواد بديلة، ومنها وثائقيات ومطبوعات تطرح تصورات مغايرة للسرديات الرسمية في غير ما مجال، وأن تجد تلك المواد لها رواجا، وجمهورا متحمسا، ومتابعين أوفياء.
لكن ليست تلك المواد البديلة كلها سواء لناحية الجودة، ولذلك فإن الضرر من عرض وثائقي مثل «القيامة العتيقة» ليس مهما بحد ذاته بقدر ما يتأتى من تعريض الجمهور الواسع لمنهجيات تفكير خاطئة تبدأ من الاعتقاد بأن مخلوقات غامضة فائقة الذكاء ساعدت في بناء الأهرامات المصرية، لكن لا أحد يعرف بالضبط أين ستنتهي.
لقد استعادت «القيامة العتيقة» كل الجدل القديم/ الجديد حول المسؤولية الجمعية تجاه نوعية المحتوى المقدم على الإعلام الجماهيري الواسع الانتشار كما في حالة التلفزيون. فهل يترك الحبل على الغارب أمام شركات معولمة هائلة لا مرجعية لها سوى الربح بتقرير طبيعة المواد التي تعرض على الجمهور العريض، أم أن عرض وثائقيات – والأفلام الوثائقية مقنعة بطبيعتها وتمنح أي قضية شرعية لا تتوفر لها من دون شريط وثائقي – تقدم طروحات غير متوافق عليها من ضرورات الحرية الفكرية التي يمكن لمنصات القطاع الخاص أن تقدمها خارج أطر القيود الأيديولوجية الضيقة التي يمكن أن تفرضها الحكومات؟ وماذا لو انتقلنا تاليا في تقديم القراءات البديلة من حيز الآثار واللقى العتيقة إلى فضاء المؤامرات السياسية، وقصص عربات الآلهة «الذين هبطوا من السماء / صعدوا إلى السماء»، والفلورايد في الماء وبروتوكولات علماء صهيون؟ إنها أسئلة لم تعد الإجابة عليها ترفا في ظل الانتشار المتشظي للتكنولوجيا.
* إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية